ليست المفارقة الوحيدة التي تميّز سنة 2024 بأنها سنة مليئة بالانتخابات في كثير من بلاد العالم، إنما هذه الإنتخابات تعتبر مفصلية وتؤسس لانعطافات تاريخية، والأهم أنها تلفح بلداناً ذات تأثير كبير في لبنان الذي يختنق جراء أزمات وانهيارات وحروب والتي تشكل الانتخابات الرئاسية «الممنوعة» مدخلا ملزما لسلوم درب التسويات.
ثمة عواصم ثلاث برزت فيها مؤشرات تبدّل داخلي عميق كشفتها الاستحقاقات الإنتخابية وهي واشنطن وباريس وطهران، وهنالك تل أبيب التي تتمسك حكومتها باستمرار الحرب طالما أن المزاج الشعبي ما يزال يحجم عن منح رئيسها التأييد الذي يخوّله العودة الى الحكم.
فالرئيس الأميركي جو بايدن والذي يعوّل عليه خصوصا الذين يخشون بقوة (لأسباب مختلفة) عودة دونالد ترامب، شعروا بالهلع بعد المناظرة التلفزيونية الكارثية على حد وصفهم لها. ومن الطبيعي أن يشعر بايدن بالضعف وتراجع ثقته بعد ظهوره غير المتماسك وهو ما فتح الباب بقوة أمام مطالبته بالانسحاب. لكن حتى لهذا القرار الدراماتيكي سلبياته وتعقيداته. فعدا عن أنّ الوقت أصبح ضيقا جدا ما يمنع البديل أيّاً كان اسمه مغمورا لا بل مجهولا بالنسبة للناخبين على مستوى جميع الولايات، فإن المشكلة الأكبر والأخطر هي في الصراع العنيف الذي سيدور لاختيار الخلف، ما قد يؤدي لانقسامات حادة سيعمل فريق ترامب على استثمارها لمصلحته. وقد يكون أفضل ما قيل عن المناظرة ان إداء بايدن كان كارثيا وبضاعة ترامب مزيّفة. في الواقع بدت الأمور بوضوح بأن الأزمة ليست انتخابية بين مرشحين ولا حتى بين حزبين بل هي باتت أقرب لأن تكون أكبر وأعمق من ذلك.
وفي فرنسا انتخابات مبكرة فاجأ بها الرئيس الفرنسي الناخبين بعد صعود اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية في خطوة غير مدروسة وأقرب الى الارتجال، قد يكون أرادَ منها إحداث صدمة في الوسط الفرنسي من صعود «المتطرفين» وهو الذي يراهن على الميل الفرنسي التاريخي تجاه الاعتدال. لكن حسابات ماكرون لا تبدو واقعية وفق آخر استطلاعات الرأي قبل فتح صناديق الإقتراع. والأهم أن تكريس قوة اليمين المتطرف وسط انقسام عمودي يجعل مما يحصل أزمة حقيقية تؤسّس لانعطافة كبيرة في مسار الجمهورية الفرنسية وربما على الصعيد الأوروبي أجمَع. فحتى بالنسبة للذين يرجحون خيار المساكنة والذي خبرته الجمهورية الخامسة أكثر من مرة، إلا أن ذلك كان يحصل بين فريقين متوافقين في السياستين النقدية والخارجية (الناتو وأوروبا). أما اليوم وفي حال الذهاب الى خيار تكليف جوردان بارديلا بتشكيل الحكومة، فإن هذا سيعني صداما داخليا سيمزق القرار الفرنسي، وهو في كل الأحوال بدأ باكرا مع إعلان بارديلا أن الجيش لا يتبع لقرار الإيليزيه. وهذا الصراع لن يكون محصورا فقط مع الرئيس بل أيضا مع كتلة اليسار التي لا يزال لديها حضورها على مستوى بعض النقابات.
أما الصورة التي رَست عليها الإنتخابات الرئاسية الإيرانية فهي اختزنت مفاجآت معبّرة ومؤشرات مقلقة. فأن تكون نسبة المشاركة وفق البيانات الرسمية لم تتجاوز الـ 40% في سابقة منذ قيام الثورة عام 1979 على الرغم من المواجهة الكبرى الحاصلة في المنطقة، والتي تشكل إيران رأس حربتها وتفترض تضييق هامش الخلافات الداخلية، فهذا يعني أنه لا يمكن بعد الآن تجاوز التحديات الداخلية الموجودة. فعلى الرغم من مشاركة مرشح إصلاحي في السباق الرئاسي إلا أن البرودة سادت النهار الإنتخابي خصوصا في العاصمة طهران والمدن الكبرى. وفي مقارنة سريعة، فعلى رغم انحصار التنافس بين «المحافظين» في انتخابات العام 2021 إلّا انّ المرشحين الثلاثة حصلوا معاً على حوالى 22 مليون صوت، أمّا اليوم فإن مجموع ما حصل عليه جليلي وقاليباف قاربَ الـ 13 مليون صوت فقط رغم وجود منافسة «إصلاحية». لا شك أن أولى الدروس الواجب الأخذ بها فتح ورشة تجديد داخلية، مع العلم أن جميع المرشحين وضعوا في طليعة خطاباتهم الضائقة الإقتصادية وضرورة رفع العقوبات.
تبقى «أزمة» نتنياهو السياسية والتي تقف حاجزا أمام إعلانه قرار إنهاء الحرب. فهو يعرف أن «سيف» الإنتخابات ينتظره مع محاكمات حضورية وأخرى معنوية وتاريخية. ووفق آخر استطلاعات القناة 12 الإسرائيلية فإن 66% يعتقدون أنه على نتنياهو التقاعد وعدم الترشح لولاية جديدة في مقابل 27% فقط يؤيدون عودته. أما استطلاع صحيفة معاريف فصحيح أنه أعطى تقدماً للذين يؤيدون عودة نتنياهو الى رئاسة الحكومة مع 38% مقارنة مع استطلاعات سابقة، إلا أن غانتس بقي متفوّقاً عليه بفارق مريح مع نيله 44%. كما أظهر الاستطلاع أن تحالف نتنياهو سيحصل على 47 مقعدا في مقابل 63 مقعدا برئاسة غانتس. وهو ما يدفع نتنياهو للتمسك أكثر بعدم إعلان وقف الحرب رسمياً.
ووسط هذه الأزمات الإنتخابية يتعمّق المأزق اللبناني أكثر فأكثر، وسط ارتفاع الشعور بالخشية من انشغال القوى الكبرى بأزماتها الداخلية على حساب البركان الذي يهز الشرق الأوسط ويكاد يخنق لبنان.
لكن هنالك من يعتقد خلاف ذلك. فهو يرى أنّ خارطة الشرق الأوسط مفتوحة برمّتها على الطاولة حيث يجري إعادة رسم النفوذ السياسي فيها. وهي مسألة أكبر من الأزمات الداخلية مهما كانت حادة ومفصلية. لا بل ان أنصار هذا الرأي يعتقدون أن هذه الأزمات الكبيرة (باستثناء الإسرائيلية) قد تدفع بهذه العواصم الى تدوير الزوايا لتمرير الحلول لا العكس، وهو ما قد يستفيد منه لبنان.
فخلال المرحلة الماضية كسبت إيران الكثير من النقاط الثمينة رغم «تهديد» نفوذها في غزة. لكن إيران الموجودة بقوة على ساحات اليمن ولبنان والعراق وسوريا تعمل على تكريس هذا النفوذ وانتزاع اعتراف واشنطن به والتحضير للمعادلة الجديدة للصراع المقبل لمرحلة ما بعد غزة.
ومن هذه الزاوية لا بد من قراءة التقارب المستجد الذي يقوم به الرئيس التركي باتجاه دمشق. فأنقره على ما يبدو تندفع لانتزاع دور و»وظيفة» تكرّس حضورها كلاعب أساسي للمرحلة المقبلة طالما أن شروط وأوراق اللعبة تسمح لها بذلك. وحتى لو جنحت المنطقة باتجاه خيار توسع دائرة الحرب، وهو احتمال موجود ولكن بنسبة ما تزال منخفضة، فإن تركيا ستعمد الى ملء الفراغات والبحث عن دور من خلالها. وتعتقد تركيا أنه كلما تفاقم الصراع مع إسرائيل ستبدو إيران وكأنها اللاعب الإقليمي الوحيد. ما يعني أن ثمة حاجة أميركية وغربية لقوة توازن مع إيران، لا سيما أن «اللعب» سيتركز على الساحات السنية ومن خلال حماس والعطف الذي كسبته، بدءاً من الساحات «الرخوة» بسبب أوضاعها الداخلية كسوريا والعراق ولبنان. وهو ما سيلقى ترحيب الدول الخليجية وروسيا على السواء
فالتقارب الذي يعمل له أردوغان باتجاه الأسد يلقى تشجيع بوتين. مع الإشارة الى الدور الذي أدّته موسكو من خلف الكواليس لحماية قرار دمشق بعدم الإنزلاق في حرب غزة. فمن جهة تريد موسكو المحافظة على الإستقرار الهش في سوريا وعدم فتح الأبواب أمام خروج الوضع عن السيطرة وبالتالي خلق ظروف تسمح بتوسيع نفوذ إما إيران أو إسرائيل، ومن جهة ثانية لا تبدو ممانعة لإضعاف الحضور الإيراني في سوريا ضمن منظار محدد، وهو ما يفسّر غض النظر عن الاستهداف الجوي الإسرائيلي لكوادر إيرانية رفيعة ومواقع أساسية.
لكن منعاً لأي استنتاجات خاطئة فإن موسكو لن تصطدم الآن بإيران في سوريا. قد يحدث ذلك في المدى المتوسط لكن ليس الآن لأن المصالح تفرض ذلك على كل من موسكو وطهران في المدى المنظور.
كذلك فحتى واشنطن تُحاذِر في هذه المرحلة إضعاف الحضور الإيراني أكثر كي لا ينعكس ذلك على تماسك الدولة السورية ما سيؤدي حكما الى الفوضى العارمة.
وفي هذا السياق يمكن تفسير التعيينات الأمنية الأخيرة التي جرت في دمشق، وأيضا المشروع المطروح لتحويل الجيش السوري وفق صيغة جديدة تشبه النموذج الروسي والذي أثبت فائدته في حرب أوكرانيا عبر التعاون بين الجيش المحترف والشركات الأمنية الخاصة مثل ڤاغنر.
ومن هذه الزاوية يشجّع بوتين وكذلك واشنطن ضمناً الدخول التركي المدروس الى شمال سوريا والعراق للتوازن مع إيران. مع الإشارة الى أن طهران كانت قد أبدَت إيجابية تجاه انفتاح دمشق على أنقره شرط انسحاب القوات التركية انسحابا كاملا من سوريا، وهو ما يعني إخراج نفوذ تركيا من سوريا.
كما أن لتركيا «مونة» خاصة على الأخوان المسلمين ومتفرعاتهم، ما يمنحها قدرة تكوين حائط صَد بوجه تمدد إيران داخل الجسم السني إنطلاقا من حرب غزة وتركيبة حماس. وهنا لا بد من الإشارة الى توزيع «حزب الله» لخبر اجتماع أمينه العام مع أمين عام الجماعة الإسلامية محمد طقوش. بموازاة تعزيز التعاون العسكري بين «حزب الله» والجماعة الإسلامية ضمن «جبهة مساندة غزة». وكان مُعبّراً ذلك الظهور المسلح للجماعة خلال تشييع شهدائها، ونوعية العتاد.
في المقابل فإن الرئيس السوري الذي يبحث عن مساعدات اقتصادية من دول الخليج يعمل على توسيع دائرة الانفتاح باتجاهه. وربما هذا ما دفع أردوغان للقول انه ليس هنالك من سبب لعدم إقامة العلاقات مع دمشق.
كل تلك التطورات وكثير غيرها يعزز رأي المراهنين على أن الأزمات الداخلية الكبرى للمثلث الدولي واشنطن باريس وطهران، سيفرض عليها عدم وضع ملف الشرق الأوسط جانباً، لا بل على العكس سيؤدي الى بعض المرونة لإقفال الملف والتفرغ للأزمات الداخلية الخطيرة وسط تصاعد موجة اليمين على المستوى العالمي.
وهو ما قد يفسّر انخفاض الحماوة التي سادت جبهة جنوب لبنان خلال الأيام الماضية. وهو ما ترافق مع تبدّل في لهجة المسؤولين الإسرائيليين من التهديد بالحرب والدمار الى الجنوح باتجاه التسوية كما ورد على لسان نتنياهو وغالنت.
وفي الوقت الذي يُحكى فيه عن زيارة سيقوم بها آموس هوكشتاين (القلق على مستقبله المهني بسبب التطورات الإنتخابية) الى باريس للقاء جان إيف لودريان، بدأ البحث الجدي عن شكل القرار الذي سيجري اعتماده للتمديد لقوات الطوارىء الدولية العاملة في جنوب لبنان آخر شهر آب. ويجري التشاور حول صيغة جديدة تتلاءم وتُحاكي بنود التسوية المطروحة للمرحلة المقبلة. وهو ما يعزز المراهنين على أن الأزمات الداخلية الكبرى والتي كشفتها الاستحقاقات الإنتخابية ستؤدي الى تليين المواقف وخفض السقوف العالية ما قد يسمح للبنان بالنفاذ باتجاه تسوية طال انتظارها بعد أن أرهقته الصراعات الإقليمية.