قد تكون من المرّات النادرة التي تصحّ فيها معظم التوقعات التي سبقت زيارة الموفد الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتاين مع تلك التي انتهت إليها الساعات التسع التي أمضاها في بيروت. وقد عَبرَ متنقلاً وسريعاً بين المراجع السياسية والعسكرية، متحدثاً مرّتين بطريقة نادرة، مستنسخاً المقولة الأمنية التي اعتاد عليها القادة الأمنيون اللبنانيون بقوله ما معناه «انّ الأمن في الجنوب ممسوك… ولكن». وعليه ما الذي يترجم هذه المعادلة؟
أجمعت المعلومات التي تسرّبت من اللقاءات المحدودة التي عقدها هوكشتاين، على بعض النقاط الأساسية التي لم تشكّل لا في شكلها ولا في توقيتها ولا في مضمونها أي مفاجأة في الأوساط السياسية والديبلوماسية، حتى أنّ بعض المحاضر شكّلت تكراراً لبعض المواقف المعلنة من الجانبين الاسرائيلي واللبناني، كما تلك المواقف الاميركية والاوروبية الساعية إلى الصيغة التي يمكن ان يتكون فيها اليوم التالي للحرب في قطاع غزة وجنوب لبنان على حدّ سواء.
في هذه الأجواء، تلاحقت الإتصالات لفهم النتائج التي انتهت إليها الزيارة، فلاحظت تركيزاً قوياً على مجريات العمليات العسكرية الجارية في المنطقة التي دخلت شهرها التاسع من دون ان تكتمل الولادة الطبيعية لنهاية اي حرب، بعدما تبين انّ معظم المتدخّلين فيها يفتقدون «الأفكار الفذّة» التي يمكن ان تُنهي أطول الحروب الاسرائيلية ـ الفلسطينية، بعدما توسعت أبعادها من المحلية والإقليمية الى الدولية. ومردّ ذلك إلى حجم الأحلاف الكبرى المتورطة فيها بطريقة مباشرة وغير مباشرة، وبأشكال غير مسبوقة بكل ما رافقها من الإستخدام المفرط لكل انواع الاسلحة وحجم الضحايا غير المسبوق.
وهو وضع انعكس في ما تعيشه المنطقة من طروحات متناقضة، وما ادّت اليه من تعقيدات، تسبّبت بتعثر كبير، لا بل بفشل كل المساعي المبذولة لخفض التصعيد، وسقوط المبادرات الواحدة تلو الاخرى، وخصوصاً تلك التي سعت إلى «التسوية السياسية» لمستقبل قطاع غزة وشكل العلاقات الواجب قيامها بين إسرائيل والفلسطينيين وما بينها وبين دول المنطقة. وهي التسوية التي يمكن ان ترفد المساعي المبذولة لأي اتفاق لوقف إطلاق النار، بما يشكّل الضمان المطلوب ليكون نهائياً ومستداماً، يؤسس إلى مستقبل المنطقة وشعوبها، إلى الدرجة التي لم تشهدها أي حرب من قبل، حيث لم يثبت حتى تاريخه انّ اياً من أطرافها قادر على تقديم خريطة الطريق الى الحل الذي يمكن ان يلجم الآلة العسكرية بعدما تمادت في حصادها.
– إنّ حال التخبّط السياسي والحكومي الذي تعيشه اسرائيل على اكثر من مستوى، وعدم القدرة على إخماد الشارع المنتفض ضدّ نتنياهو، وما أصاب «حكومة الحرب» من انهيار كان محتوماً، دفع إلى اعتماد القادة السياسيين والعسكريين لغة التهديد التي اعتادها اللبنانيون ومعهم العالم أجمع، من دون التخلّي عن الحديث العقلاني من حين إلى آخر، عن إعطاء الخيارات السياسية والديبلوماسية حيزاً يتفوّق على الخيارات العسكرية الاخرى. وزاد في الطين بلّة، ما عبّر عنه عدد من رؤساء الحكومات وقادة الاركان السابقين ومعهم وزراء حاليون وسابقون اسرائيليون، من الذين حذّروا من أي خيار عسكري يؤدي الى توسيع الحرب، قبل إعادة تأهيل الجيش، والاستعداد لحرب أخرى فرضتها نوعية العمليات العسكرية للحزب من الجانب اللبناني، وسقوط الاستطلاعات المسبقة التي وضعت تقديراً لقوة «حماس» والفصائل التي انضمت إليها في المواجهة، على طاولات القادة الحكوميين، ومعها مدى تحمّل الشعب الفلسطيني من ضغوط عسكرية وانسانية لا يتحمّلها شعب آخر.
– ثبت لدى هوكشتاين بما تلقّاه من رسائل من لبنان، انّه وفي ظل العجز الحكومي، فإنّ «حزب الله» ليس على استعداد للبحث في اي خطوة عسكرية أو سياسية، بما فيها النص النهائي لـ«اتفاق الاطار» الخاص بالحدود البرية، وانتخاب رئيس الجمهورية، قبل وقف النار في غزة. وانّه لم يعد يثق بأي مبادرة غير تلك الاميركية، بعدما قضى على كل المبادرات الدولية والاممية الاخرى، إما بتجاهلها او رفضها، كما حصل بالنسبة الى المبادرتين القطرية والفرنسية ومعها مساعي «اللجنة الخماسية»، وهو ما أدّى إلى تجميدها او التراجع عنها. وانّ الحزب ومن خلفه «الثنائي الشيعي» لا يمكنه أن يقدّم اي تنازل سوى امام الجانب الاميركي، فتعززت الثقة لدى هوكشتاين بأنّه سيكون اللاعب الوحيد في اليوم التالي للحرب في غزة ولبنان على حدّ سواء. وهو ما ارضى غروره الذي لم يعد خافياً على أحد من اعضاء السلك الديبلوماسي ومعهم الذين تعاطوا معه من كل المواقع في الفترة الاخيرة.