ليس خافياً انّ تكليف هوكشتاين من قبل إدارته بأن يزور لبنان والكيان الاسرائيلي في «رحلة طوارئ» دبلوماسية، إنما يعكس استمرار اقتناع واشنطن بأنّ مصلحتها لا تزال تقتضي تفادي حصول حرب اسرائيلية شاملة ضد لبنان، على مسافة أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية الأميركية، حيث أن الرئيس جو بايدن لا يتحمّل في هذا الوقت القاتل مغامرات غير محسوبة قد يدفع ثمنها في صناديق الاقتراع، خصوصاً ان لديه خشية من ان تتطور اي معركة كبرى مع الحزب الى مواجهة اقليمية تنخرط فيها إيران وقوى أخرى، الأمر الذي سيضع المصالح الأميركية في المنطقة في مهب الريح.
والارجح، انّ واشنطن تعلم كذلك انه سيكون خياراً سيئاً ان يدخل الجيش الإسرائيلي في حرب جديدة بينما لا يزال يتخبّط في رمال قطاع غزة المتحركة، وحتى لو أنهى قريباً العمليات العسكرية الكبرى في القطاع فسيكون مُنهكاً ومستنزفاً وغير قادر على أن يبدأ في اليوم التالي مغامرة جديدة أصعب بكثير من تلك التي اختبرها في غزة المحاصرة.
لذا، هناك من يعتبر أنه، ومهما تصاعدت التهديدات الإسرائيلية، تبقى واشنطن المالكة للنسبة الأكبر من أسهم قرار الحرب والسلم على جبهة لبنان. وبالتالي فإنّ الاسرائيلي لا يمكنه ان يقلب الطاولة على تلك الجبهة من دون ضوء أخضر أميركي لا يزال غير متوافر.
أما المطلب الاسرائيلي بانسحاب «حزب الله» إلى شمال الليطاني، والذي ربما سمعه هوكشتاين هذه المرة أيضا في تل أبيب، فقد رَدّ عليه النائب حسن فضل الله (أمس الأول) عشيّة زيارة الموفد الأميركي للبنان، مؤكداً انّ ما عجز العدو عن أخذه في الميدان لن يحصل عليه بالسياسة وانّ فكرة المنطقة العازلة هي وهم يُراود قادَته وليست للنقاش. وقد بَدا هذا الموقف الذي صدر من عمق منطقة جنوبي الليطاني وكأنه رسالة حاسمة برسم هوكشتاين، ضبطت إيقاعه ورسمت سقف تحركه، قبل أن يحط في بيروت التي وصلها امس.
وبمعزلٍ عما حمله هوكشتاين الى المسؤولين اللبنانيين، فإن العارفين يشيرون الى ان «حزب الله» لن يتزحزح عن ثابتتين ناظمتين لسلوكه منذ 8 اوكتوبر، وهما:
– لا تهدئة على الحدود الجنوبية قبل وقف إطلاق النار في غزة.
والى جانب هذا الموقف المبدئي، يُبدي الحزب انفتاحاً على مناقشة الوضع المستقبلي عند الحدود بعد وقف إطلاق النار في غزة، انما تحت سقف ضمان الحقوق السيادية اللبنانية، ومن بينها انسحاب الاحتلال من النقاط البرية «العالقة» والكَف عن الطلعات الجوية للطائرات المعادية، وهما امران لم يقبل بهما العدو حتى الآن.
ويؤكد القريبون من الحزب انه يخوض المعركتين العسكرية والسياسية بأعصاب فولاذية، من دون أن يتأثر بكل أشكال التهويل الاسرائيلي، لافتين الى انّ هناك تفويضاً كاملاً للرئيس نبيه بري على مستوى ملف التفاوض مع هوكشتاين، في اعتبار انّ بري هو شريك استراتيجي في الميدان والسياسة، وبالتالي يحظى بثقة الحزب الكاملة.
وما يعزز تمسّك الحزب بخياراته اقتناعه بأنّ الاسرائيلي يواجه مأزقاً حاداً، من غزة الى الجنوب، ما يضعه أمام احتمالات صعبة، أحلاها مر.
ووفق تصوّر الحزب، اذا حاول العدو تنفيذ اجتياحٍ بريّ محدود لإبعاد المقاومين من منطقة جنوبي الليطاني، فسيجري «فرمه» على الأرض (تبعاً لتوصيف أحد القياديين)، وسيتعرض كل شمال فلسطين المحتلة لضربات موجعة ستدفع نحو مليون مستوطن الى النزوح، وإن قرر شن حرب شاملة فسيلقى ردا شاملا استعَدّت له المقاومة جيدا، وفي الحالتين لن يجد الاحتلال أفقا سياسيا، سواء لهذا السيناريو او ذاك.
وقد أتى الشريط الذي وزّعته المقاومة عن مشاهد التقطها «هدهد» لمواقع ومنشآت حيوية في شمال فلسطين المحتلة وصولاً حتى حيفا، ليعّزز معادلة الردع ويطوّرها في توقيت مدروس اختاره الحزب بدقة، بُغية لجم اي مغامرة اسرائيلية و»رَكلجة» دور الموفد الأميركي.
ويُنبّه الحزب الى انّ اي رسائل تهويل للبنان لن تفيد هوكشتاين في مسعاه بل ستزيد في تفاقم الوضع، كذلك فإنّ طرحَ أمور غير واقعية خلال التفاوض سيكون مجرد مضيعة للوقت.
لكنّ المواكبين لمساعي هوكشتاين يميلون الى الاستنتاج بأنه أصبح اكثر واقعية في مقاربة ملف الحدود الجنوبية، وبات اكثر دراية بمعادلة الصراع ومتطلبات وَقفه، بدءاً من التسليم بأنّ إنهاء العدوان على غزة هو ممر إلزامي لعودة الهدوء الى جبهة شمال فلسطين المحتلة، أما الاستقرار المُستدام فله مستلزماته التي ستخضع الى البحث لاحقاً.
المصدر:”الجمهورية – عماد مرمل”
**