ليس النظام الاتحادي طرحاً جديداً. حظي الخيار الاتحادي بتأييد مسيحي قبل الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) وخلالها. إذ عرض رئيس الجمهورية الراحل كميل شمعون ،وهو رئيس حزب الوطنيين الأحرار خطة مفصلة إلى “اقامة نطام اتحادي في لبنان” على غرار النظام السويسري ،كما قدمت “الجبهة اللبنانية”، التي مثلت حينها تطلعات الموارنة، مشروعاً فدرالياً خلال الحوار الوطني اللبناني في لوزان في 1984. وراودت الفدرالية بشير الجميل قبل طموحه الرئاسي وشعار 10452 كلم2. لكن الحرب الأهلية انتهت بتوقيع الأطراف المتناحرة وثيقة الوفاق الوطني لعام 1989، المعروفة باتفاق الطائف، والتي أقرّت لامركزية إدارية بدلاً من الفدرالية.
اليوم يُطرح النظام الاتحادي مجددا من قبل “حزب الوطنيين الأحرار” ،إذ دعا رئيسه النائب كميل شمعون الأطراف السياسية إلى الاتفاق على حل “فيدرالي” من أجل الجميع، كاشفاً عن أن حزبه سيعلن مشروعاً اتحادياً للبنان الجديد.
وبانتظار الاعلان عن هذا المشروع كان لا بد من العودة الى المنطلقات الفكرية التي طرحها الرئيس الراحل كميل شمعون الذي كان اوضح اركان “الجبهة اللبنانية” في تصوره “للبنان الاتحادي”.وهو قد دعا، على هذا الاساس في حديث مع وكالة رويترز في تاريخ 16/12/ 1976 الى اعتماد النظام الاتحادي الفدرالي بصراحة ووضوح ودعا له.
ومن خلال دراسة مشروع الدستور الذي اقترحه الرئيس شمعون ونشرته مجلة العمل في عددها السابع، يتبين لنا انه ينطوي على كونفدرالية واضحة ،حيث يقوم تنظيم الدولة التي قيل انها فيدرالية ،على انشاء ولايتين ومنطقة مشتركة (المادة٣) .بمعنى ان هذه المنطقة لا تنبثق عن اتحاد الولايتين، وتشكل بالتالي على اساس اتحادهما دولة جديدة فيدرالية، تكون فوق الولايتين وتتجسد في ذاتها وحدة الدولة المركزية .وإنما تعتبر هذه المنطقة، مجرد منطقة مشتركة ، ليست هي بدولة وليس لها صلاحيات الدولة المركزية في النظام الفيدرالي ، ولا تتمتع بأكثر من اختصاصات اقتصادية. هذا هو التنظيم العام او الهيكلية العامة للمشروع ،اما الشكل التفصيلي لهذا التنظيم فهو كما يلي:
تنص المادة الثالثة من مشروع الدستور على ان ينشأ في لبنان ولايتان ومنطقة مشتركة.
– في الولايات:
تتكون الولاية الاولى من المدن والمجموعات السكنية والاراضي الزراعية والمشاعية التابعة لها والتي كانت معروفة باسم متصرفية جبل لبنان المحددة وفقا لبروتوكول 1861 و 1864 يضاف اليها بيروت الشرقية. بينما تتألف الولاية الثانية من القسم الغربي لمدينة بيروت باستثناء المنطقة المشتركة ومن باقي المدن والمجموعات السكنية والاراضي الزراعية والمشاعات التابعة لها (المادة 4). اما المنطقة المشتركة فتتألف من الوسط التجاري لمدينة بيروت بحدود شمالية تمتد الى الكرنتينا والصيفي، وحدود شرقية تمتد من اول شارع الحمراء والبنك المركزي الى ساحة رياض الصلح الى ساحة الدباس، الى اول شارع النهر، وتصل جنوبا الى مدخل الجامعة الأميركية . ومن البحر المتوسط كحدود غربية.
– في السلطات:
يتولى السلطة التنفيذية في كل ولاية حاكم او رئيس جمهورية يتمتع بالصلاحيات الدستورية المنصوص عليها في دستور 1926 تعاونه حكومة مؤلفة من وزراء يعينهم رئيس الجمهورية ويختار من بينهم رئيسا للوزراء وتحدد مسؤولياتهم وفقا لأحكام هذا الدستور (المادة 7).
ويمارس السلطة التشريعية في كل ولاية مجلس نيابي مؤلف من نواب منتخبين يكون عددهم وكيقية انتخابهم وفقا للقانون الذي تصدره كل ولاية.(المادة 8). اما السلطة القضائية فتتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها في كل ولاية بموجب قانون يحفظ للقضاء استقلاه ومستواه الرفيع.(المادة 10). ولكن الدستور لم ينص على انشاء محكمة دستورية لمراقبة دستورية القوانين التي تعتبر من اسس النظام الاتحادي.
وتتمتع كل ولاية بالحكم الذاتي وبالاستقلال في ادارة شؤونها الادارية والسياسية والقضائية والتشريعية والعسكرية والثقافية وفي فرض الضرائب وجبايتها وتقرير الموازنة وانفاقها. (المادة 6). ويلاحظ ان كل ولاية تمارس هذه الصلاحيات دون اية قيود او مراعاة لأي نص آخر يفترض ان يكون نص الدستور الاتحادي وكأن هذه الصلاحية معمولة لدولتين مستقلتين وكاملتي السيادة.
– في المجلس الأعلى للمصالح المشتركة: تأليفه وصلاحياته.
يتألف المجلس الأعلى للمصالح المشتركة، الذي يفترض ان يكون جهازا مركزيا، من ستة اعضاء تعين حكومة كل ولاية نصفهم بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء لمدة ست سنوات، وسكرتير عام واحد ( المادة 14). فيكون لهؤلاء من حيث المبدأ صفة تمثيلية، ومن سكرتيريتين عامتين تمثل الطوائف الرئيسية (المادة 11). وتكون الرئاسة فيه بالتناوب بين اعضائه لمدة سنة واحدة. وتؤخذ القرارات فيه بأكثرية الاصوات، ويرجح صوت الرئيس في حال تعادلها (المادة 12). الا ان المادة الثالثة عشرة تعطل مضمون هذه القاعدة من حيث اعتبار قرارات المجلس الاعلى نافذة ما لم يعترض عليها من قبل حكومة احدى الولايتين في خلال شهر واحد من تاريخ تبلغها القرار خطيا مع علم بالاستلام. فيكون اعضاء المجلس الأعلى مجرد ممثلين دبلوماسيين يأتمرون بأوامر حكوماتهم ، طالما انهم يعينون من قبلها ويمثلونها في المجلس الأعلى. فضلا عن هؤلاء الممثلين لا يلزمون ولاياتهم بالقرارات التي يتخذها المجلس الأعلى ويبقى لكل ولاية حق نقض قرارات المجلس الأعلى وبالتالي شل عمل المجلس كليا.
ويتبين وهن الرابطة الاتحادية وعدم جديتها من الصلاحيات التي اعطيت للمجلس الأعلى للمصالح المشتركة ، وهي صلاحيات محض اقتصادية تتعلق بتطبيق القوانين التي تقوم عليها الوحدة الاقتصادية، وتطبيق الوحدة الجمركية وادارة الجمارك وجباية الرسوم ومنع التهريب. ويحق له من اجل ذلك اتشاء شرطة جمركية تابعة له مباشرة والاستعانة بقوى الامن التابعة لكل من الولايتين، كما يدخل في صلاحياته صيانة النقد ووحدته وتأمين حرية وسلامة المواصلات البحرية والبرية والجوية (المادة 16). وهو كأي ادارة او دائرة رسمية يصدر تقريرا سنويا مفصلا بنتيجة اعماله، لاسيما عن حركة التصدير والاستيراد وحالة النقد واوضاع الاحتياط ومقدار الرسوم الجمركية المجباة (المادة 17). وذلك من اجل توزيع هذه العائدات بين الولايتين بحسب مساهمتهما في تكوين العائدات (المادة 18). ويلحظ هذا المشروع امكانية عقد اجتماعات دورية بين الوزراء المختصين من كل ولاية مرة واحدة كل شهرين وكلما تدعو الحاجة من اجل تنسيق خطط الدفاع عن سلامة الاراضي اللبنانية والسياسة الخارجية وتأمين سلامة المواطنين وحرية تنقلهم عبر الاراضي اللبنانية واقامتهم (المادة 19). ومن الطبيعي ، باعتبار ان كل ولاية تعتبر دولة سيدة ومستقلة، كما يتبين من نصوص هذا الدستور، ان تطبيق قوانين كل ولاية من مدنية وضريبية على كافة المقيمين على اراضيها، وبالتالي، يتحتم خضوعهم للسلطات القضائية والادارية القائمة ايا تكن الولاية التي ينتمون اليها (المادة 20) لاسيما وان كل مواطن يأخذ جنسية الولاية التي ينتمي اليها (المادة 22) مع اعطاء الحق لكل مواطن بالانتماء لأحدى الولايتين ضمن مهلة سنة واحدة من تاريخ صدور الدستور (المادتان 21 و22).
في الخلاصة، ان هذا المشروع الذي طرحه الرئيس الراحل كميل شمعون بشكل دستور، ما هو الا معاهدة او اتفاقية بين دولتين تتمتعان بالاستقلال والسيادة الكاملة، في الداخل والخارج، على ان ينشأ فيما بينهما علاقات على المستوى الاقتصادي الجمركي على وجه التحديد يتولى رعايتها هيئة مشتركة، كما يقوم بينهما نوع من التنسيق على المستوى السياسي والداخلي. وهذه الاتفاقية لا تخلق دولة جديدة يكون لها السيادة وتسمو على الدول الاعضاء فيها، فليس فيها من عناصر وقواعد الفدرالية شيئا. وبالتالي فهذا المشروع ، برأينا، ينطوي على اقامة نظام كونفدرالي ضمن اطار محصور ومحدود، شاءه الرئيس شمعون كصيغة حل للقضية اللبنانية، تضمن حرية المجموعات الحضارية، وتمنع الاحتكاك والتصادم بين المسلمين والمسلمين.
وليس من شك ،ان الكونفدرالية هي رابطة سياسية واهنة وضعيقة، وقد دلت التجارب التاريخية على انها غير قادرة على الاستمرار، فضلا عن انها لا تؤمن الاستقرار. وهي سرعان ما تنتهي الى الانحلال، وانفصال الدول الاعضاء فيها بعضها عن بعض ، او بإقامتها روابط اتحادية متينة قابلة للحياة. وبكلمة ان الكونفدرالية ، وهي في مشروع مؤسس حزب الوطنيين الاحرار اقرب الى الاتفاقية الجمركية ، لا تصلح صيغة “تكاؤن” بين المسلمين والمسيحيين، بل انها صيغة مفككة لا تلبث حتما ان تؤدي الى الانفصال.
فهل بعد كل ذلك، يمكن القول ان دعوة رئيس حزب “الوطنيين الاحرار” النائب كميل شمعون الى اطلاق كيان اتحادي يجمع اطرافا سياسية متفرقة والتخلي عن الحكم المركزي ستكون صورة منقحة عن مشروع سلفه ، وما الحكمة من اعتماد صيغة هذا مضمونها؟ وما هي مصلحة لبنان واللبنانيين ،بل الطوائف اللبنانية في تبني هكذا صيغة اتحادية تتناول الارض والشعب؟ وماذا يجني اللبنانيون عموما والمسيحيين خصوصا من ورائها؟ الا نكون صادقين مع انفسنا اكثر من ذلك ونطالب بتطبيق اتفاق الطائف الذي تم تشويه تطبيقه واستنسابية في انتقائية بنوده ،مما افرغه من مضمونه الحقيقي ، ولاسيما البنود المتعلقة باعتماد اللامركزية الادارية الموسعة اضافة الى تشكيل الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية واستحداث مجلس شيوخ؟
حسبنا الاكتفاء بهذه التساؤلات التي نضعها برسم سائر القوى السياسية والفكرية على اختلاف اتجاهاتها في شأن موقفها من الازمة اللبنانية، حتى لكان اللبنانيين فريقان، فريق لا يرى عن الفدرالية بديلا، وفريق آخر لا يقبل بغير الدولة المركزية نظاما قانونيا .وضمن هذه المفاهيم، وفي هذه المناخات المليئة بالتخوين والكراهية والخوف ، والبعيدة عن روح “التكاؤن” لا يمكن بناء دولة، ويبقى كل بحث عن صيغ جديدة لامركزية ادارية او مالية او سياسية، فدرالية الى كونفدرالية، عبثا لا يرتجى منه خير ولا نتيجة.
المصدر:”سوشيال حوار – دز هشام الاعور”
**