باستثناء «فشّة الخلق» العنصرية لأنصار القوات اللبنانية ضد النازحين السوريين في جبل لبنان، لم تنجح القوات في استغلال أوسع لجريمة خطف وقتل مسؤولها في جبيل باسكال سليمان على يد عصابة سورية أوقف جميع أفرادها، وذلك بعدما لامس تحريض القوات المحظورَ مع إرسال مناصريها تهديدات إلى سكان قرى شيعية في جبيل وكسروان، ما دفع الجيش اللبناني بالتنسيق مع حزب الله إلى القيام بخطوات للتهدئة، قبل أن يوسع انتشاره العسكري والأمني في المنطقة.وعلمت «الأخبار» أن التحقيقات التي جرت بمشاركة أربعة من الأجهزة الأمنية اللبنانية أفضت سريعاً إلى رسم خريطة لملابسات الجريمة، بعدما نسّقت مخابرات الجيش مع الأمن السوري لاعتقال ثلاثة من المشتبه في تورطهم داخل الأراضي السورية، فيما أوقف ثلاثة آخرون على الأراضي اللبنانية. وتولّى مدير المخابرات في الجيش العميد طوني قهوجي التواصل مع قيادة القوات والأحزاب السياسية المسيحية وبكركي لوضعها في أجواء التحقيقات، قبل أن يطلع قائد الجيش العماد جوزيف عون بكركي مباشرة على مضمون اعترافات الموقوفين.
وفي التحقيق معهم، قال هؤلاء إنهم لم يستهدفوا سليمان تحديداً، وإنهم فشلوا في محاولتين للسطو على سيارتين قبل أن يلاحقوا الضحية الذي كان وحيداً. وأفادوا بأنهم اعترضوا سيارة سليمان وحاولوا إنزاله منها، وعندما قاومهم ضربه الموقوف السوري بلال دلو على رأسه بعقب مسدس ضربات عدة، ووضعوه في المقعد الخلفي لسيارته audi Q7 (تتسع لسبعة ركاب) على أن يطلقوا سراحه على بعد نصف ساعة من المكان، بعدما تخلّصوا من هاتفه أولاً. وعندما توقفوا لإطلاقه فوجئوا بأنه فارق الحياة. وعندما تواصلوا مع زعيمهم الموجود في منطقة طرابلس، طلب منهم نقل الجثة معهم إلى منطقة زيتا داخل الأراضي السورية للتخلص منها هناك، حيث يفترض أن يسلموا السيارة إلى عصابة ابتزاز بعض أفرادها من اللبنانيين المطلوبين للقضاء. وأفيد بأن تقارير ثلاثة أطباء شرعيين في لبنان أحدهم طلبته القوات اللبنانية، تطابقت مع تقرير الطب الشرعي في سوريا لجهة أن سليمان قُتل بعد تعرضه للضرب بآلة حادة على مؤخرة رأسه تسببت بنزيف في الدماغ أدى إلى الوقاة التي حُدّد موعدها في وقت قريب جداً من وقت تنفيذ عملية الخطف. وكشفت التحقيقات أنّ العصابة نفسها سبق ان نفّذت عدداً من عمليات السرقة التي قُدّمت بلاغات بشأنها، من بينها سيارة هيونداي accent سُرقت من منطقة الرابية مطلع الشهر الجاري، وهي نفسها التي استخدمها الجناة في عملية الخطف.
تحريض القوات مستمرّ
رغم تكشُّف ملابسات الجريمة واعتقال منفّذيها، أصرّت القوات، وعلى طريقة «عنزة ولو طارت»، على مواصلة الاستثمار، وتوجيه الاتهام السياسي إلى حزب الله الذي يُعدّ، «بغضّ النظر عن خلفيات وعوامل الجريمة، المسبّب الأول للفلتان الأمني والحدودي وضرب إدارات الدولة القضائية والأمنية والعسكرية من خلال منعها العمل في مناطق معينة» وفق بيان لحزب القوات أمس.
ومنذ اللحظات الأولى للإعلان عن خطف سليمان الأحد الماضي، اندفعت القوات بدءاً من رئيسها الذي غادر حذره الأمني للمرة الأولى منذ فترة طويلة و«نزل على الأرض» في عملية تحريض وضعت الشارع على حافة انفجار كبير، بعدما غذّتها خطابات فتنوية لنوابها ومسؤوليها بالدعوة إلى الأمن الذاتي واستحضار شعارات من زمن الحرب الأهلية. ورغمَ محاولات التنصل اللاحقة من هذا الخطاب بحجة «عدم القدرة على ضبط الجمهور»، إلا أن واقع الأمر أن كلام الجمهور الغاضب هو ارتداد للمواقف الحزبية التحريضية المتراكمة ضد طرف محدد، والتي بلغت ذروتها في مقابلة تلفزيونية لجعجع الأسبوع الماضي قال فيها إن المشكلة اليوم هي بينَ الشيعة والمسيحيين.
وقد عكست بعض المواقف الرسمية والحزبية والإعلامية وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي لفريق القوات السياسي، إصراراً على توجيه التهمة إلى حزب الله بأي شكل من الأشكال، وكيفما دارت التحقيقات على قاعدة إن «لم يكن هو صاحب الفعل فهو صاحب المسؤولية»، وفقَ بيان القوات. علماً أن الفريق «السيادي» الحريص على إدارات الدولة ومن ضمنه القوات شكّك في رواية المؤسسة العسكرية حول ملابسات الحادثة، واعتبرها «غير مقنعة»، ويُصر على اعتبار ما حصل «اغتيالاً سياسياً حتى يثبت العكس». وهو ما يشير إلى نية الاستمرار في استثمار الجريمة سياسياً حتى آخر نفس، وإلى ما بعد مراسم الدفن التي يرأسها البطريرك بشارة الراعي الجمعة في كنيسة مار جرجس في جبيل.
وبالتوازي، علمت «الأخبار» أن اتصالات داخلية وخارجية مكثّفة جرت مع جعجع لضبط الشارع وعدم التصعيد ووقف الممارسات التحريضية والعنف ضد النازحين السوريين. كما سُجّل تواصل بين الرئيس نبيه بري وكل من بكركي وقائد الجيش جوزف عون الذي زار الراعي أمس وأكّد له أن «أسباب الجريمة محصورة بالسرقة». علماً أن موقف الجيش ومسارعة مديرية الاستخبارات إلى كشف ملابسات الجريمة، إضافة إلى موقف الراعي الذي دعا إلى «التروي وضبط النفس»، وحضّ وسائل الإعلام على «عدم إطلاق تفسيرات مغلوطة وتأجيج نار الفتنة»، لعبت دوراً في سحب الغطاء المسيحي والشرعي عن جعجع وحزبه.
في المقابل، أصرّت مصادر في القوات اللبنانية على «أننا لم نتهم أحداً رسمياً، وننتظر التحقيقات. لكن ما سمعناه حتى اليوم من روايات يحمل تناقضات وتساؤلات ترسخ القناعة بأن الجريمة ليست مجرد عملية سطو بسيطة، وإلى أن تصدر رواية مقنعة، سنعتبر ما حصل اغتيالاً سياسياً». وأكّدت أن «جعجع لا يريد التصعيد وهو نزل إلى الأرض بهدف ضبط الشارع، ونزل الناس للضغط على القوى الأمنية للإسراع في تحرير رفيقنا. وعندما تأكّد خبر مقتله طلب من الجميع الخروج من الشارع والساحات وفتح الطرقات». ولفتت إلى أن «الملابسات لا تزال مبهمة وإذا لم تصلنا رواية مقنعة لا شك سيكون لنا موقف سياسي تصعيدي».
وعقد وزير الداخلية بسام مولوي أمس اجتماعاً استثنائياً لمجلس الأمن المركزي بحضور قادة من الأجهزة الأمنية والعسكرية، وأكّد بعده أن الجريمة ارتكبها سوريون، وشدّد على أنّ «البلد لا يحتمل فتناً»، مؤكداً أن «الفاعلين موقوفون، وخيوط الجريمة ستُكشف وكذلك خلفياتها ومَن يقف وراءها».
**