ابرزت حادثة إختطاف المسؤول في ” القوات اللبنانية ” باسكال سليمان تصاعد خطاب الكراهية على مواقع التواصل الاجتماعي حتى بات نهجا “منظّما” يُستخدم للتأثير على الرأي العام ونظرته إلى الأفراد، والمجموعات، والسياسة، ويُوظَّف بشكل ممنهج، في خدمة السردية القائمة على تخوين “الآخر” او التحريض عليه.
خطاب التخوين او التنابذ بين الأطراف السياسية اللبنانية يكاد يُشكّل أدوات العمل السياسي شبه الوحيدة في المشهد العام والذي يحمل معه بذور كراهيات وأحقاد سرعان ما تتحول الى اعمال عنف وقطع طرقات وإشكالات وفوضى .لقد تحول هذا العُرف إلى ايديولوجيا يجانب كل ما يتعلق بالسياسة ويتصل بها، على الأقل هذا ما يقوله مبتكرو علم السياسة، فلاسفة اليونان، ذلك أنه من المقولات وكما يرد في “علم الأخلاق” لأرسطو “إن غرض السياسة الخير الحقيقي.. الخير الأعلى للإنسان”.
جزء كبير من الطبقة السياسية التي أدارت المجال السياسي بعد عام 1992 هم نتاج الحرب الأهلية اللبنانية، هم المنتصرون فيها أو الناجون منها. والأهم أن هؤلاء مثلوا جماعات طائفية هدفهم الوحيد التمتع بغنائم السلطة .لم تنته الحرب بانتصار طرف واحد أو ائتلاف واحد لديه مقاربة لبناء الدولة وسعى إلى تطبيقها بل جرى إنهاء الحرب بتكريس فكرة ميثاقية الطوائف أي توافق رموز الطوائف المحمي بالتشبيك والتخادم مع المنظومة الاقتصادية والمالية لما بعد الاستقلال وامتداداتها الخارجية.
الاستدلال الأبرز على ذلك هو الإطاحة بالمرحلة الانتقالية ومستلزماتها عام 1992 وهي التي كان يُفترض أن تنتهي عام 1994 بإقرار عدد من القوانين الإصلاحية وفي طليعتها استحداث مجلس شيوخ وإقرار اللامركزية الادارية.
كان مفهوم الدولة وتجربتها في لبنان جنينياً ولا يزال. ولذا كان سعي بعض السياسيين لتحقيق الصالح العام مضطرباً تحت سطوة المصالح الحزبية الضيقة.
مرّ في تاريخ لبنان رجال دولة على شكل ومضات لم تكن كافية لإقامة الدولة، في حين أنه لا الخارج أراد قيام دولة ولا امتيازات أصحاب رؤوس الأموال ولا المنتفعون من الطائفية. أما القدرة على الحكم فكانت مرتبطة بوجود مركز قوي في قلب النظام، مثل رئيس الجمهورية في بعض الفترات قبل اتفاق الطائف أو الإدارة السورية بعد اتفاق الطائف.وحين كان يتراجع هذا المركز القوي تتبعثر سلطته على مراكز قوى الأمر الواقع التي تتأثر قدرتها على إنجاز توافقات بينية بحدّة الصراع الخارجي والداخلي على تقاسم المصالح وتوزيع الثروات.
إذاً يتصف الواقع اللبناني بغياب مفهوم الدولة، ووجود بيئة للصراع الداخلي الدائم، وتأصّل بنية المحميات التي كرّست هيمنة عدد من رجال السياسة على مجالهم الطائفي، ووضع الطوائف بعضُها مقابل بعض. هذه الدينامية المنتجة للتسلط تتيح لزعيم الدويلة مصدراً رمزياً هائلاً لتحصيل المشروعية بكلفة قليلة وتعفيه من آليات المحاسبة، ولا سيما متى أصبح شخصه يعادل الطائفة، كرامتها من كرامته ووجودها من وجوده.
ما أسخف فرضية التخوين وشيطنة الآخر في سجالات الداخل اللبناني وما أبعدها عن أبجديات التفكير السياسي، بل ما أخبثها في ممارسة الطمس والإخفاء للأسئلة الفعلية: الخيارات الاقتصادية، توزيع الثروة، توزيع السلطة على مقتضى مواطني، تحرير المجال السياسي من العلاقات الأهلية العصبوية (الطائفية، المذهبية، المناطقية، العائلية…)، الفساد المالي والقضائي والإداري، الإنماء غير المتوازن للمناطق، الجمود المؤسسي ،الأزمة الصحية ،التدهور البيئي ،مشكلة النازحين السوريين ومثيلات لها من الأسئلة المغيّبة تغييباً.
ليتوقف هذا التراشق الكلامي بتهم العمالة والممالأة للأجنبي بين اللبنانيين، فهو ليس من السياسة في شيء، ولينصرفوا الى الحوار أو الى ممارسة الاعتراض المتبادل بوصفهم لبنانيين يتباينون في المصالح ويختلفون في الرؤى لا بوصفهم فريقاً في عين آخر مجرد شبح لقوة إقليمية أو دولية. وبينما يمارس زعماء الطوائف السياسة في حدود الضيعة والطائفة والحزب يليق بهم ان ينتبهوا الى ما ذهلوا عنه: حدود السياسة هي حدود الوطن . وهنا يستحضرني سؤال غسان كنفاني :”اتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله”. كلمةٌ قالها منذ أكثر من خمسين عاماً وما زال إلى الآن “ذلك كله” يحدث! يقف أبناء الوطن في طوابير الانتحار وكأنهم جنود ينتظرون دورهم في محارق فتنة مزعومة وحروب لا تنتهي.
أما بعد يا وطني هي كلماتٌ أحفرها على الحجر عسى أن تراها! وخوفي أن يأتي أحد جندك ليهشّم الحجر، ويكشف أمري فيهشّم رأسي أنا الآخر!
المصدر:”سوشيال حوار – د.هشام الاعور”
**