الأكيد أن عقودا من حكم ما بعد الحرب الأهلية وتوقيع اتفاق الطائف كرست مفهوما منحرفا للمسؤولية يستهزأ باللبنانيين وينظر إليهم شعوريا أو لا شعوريا بنظرة القاصر الذي لا يرتقي الى مستوى محاسبة اهل السلطة ومسائلتهم جديا. ومما زاد في تفاقم هذا المشكل انغلاق منظومة الطائف التي استفردت بالسلطة منذ التسعينات على نفسها ورفضها كل محاولات الإنفتاح والإصلاح.
استوقفني مشهد متكرر أثناء متابعتي للأحداث العسكرية المتتالية في جنوب لبنان غداة عملية “طوفان الأقصى ” الا وهو مشهد جهات متعددة مكشوفة الهوية كانت أو مجهولة وهي تلقي باللوم على مشاركة حزب الله في الحرب لنجدة غزة.
نعلم أنّ شعبوية الخطابات والتمنيات الطيبة أسهل من واقعية وشجاعة الحفاظ على أبسط حقوق دولة “سيدة” يطلق عليها اسم الجمهورية اللبنانية التي تنتهكها اسرائيل.ولكن المشكلة تتلخص بمعادلة مبسّطة تفيد بوجود شبكات المصالح الداخلية والخارجية والعصبيات المنبعثة من رماد إخفاق المشاريع الوطنية والقومية، فلا يعود للدولة معنى في ظل تحيّز وتشدد من الداخل في مقابل العجز والحيادية والاستتباع للخارج.
فمنذ عقد ونصف عقد والمقاومة تحاول على تحفيز سيرورة تاريخية تحتضن في داخلها عوامل قيام الدولة، فهذه لا تستتب بالنيات الحسنة ولا بجبل من الشعارات المبطّنة، بل بأفعال من شأنها التوفيق بين فكرة بناء الدولة وتقدير واقعي وعميق للتحديات الكبرى التي تواجه المنطقة وللترابط الذي لا يمكن التحلل منه بين مشاكلها، فهذا الخيار يفترض إنتاج وطنية لبنانية متماسكة ومتفق عليها والتزام معايير محددة تصب في نهاية المطاف في تحديد العدو والصديق للبنان .
لا قيام للدولة أيضا اذا تمكن اعداء
لبنان من استدراجه الى لعبة المشرق العربي الجديد الذي تطمح اسرائيل ان “ترسّم حدوده بالدم” ويُطبخ مستقبله على “نار حروب أهلية” خفيفة ومستعرة، باردة وساخنة. بكلمة أخرى تمثّل المقاومة النقيض الاستراتيجي والتاريخي للفوضى البنّاءة التي تعني الخروج الجماعي من الدولة الوطنية ومن الانتماء العربي الى صراعات لامتناهية بين الهويات الصغرى المرتبطة اصلا بفكرة التقسيم وقيام الفدراليات.
الجمع بين الدفاع عن الوطن ضد الضغوط الخارجية، والعمل على تحريره من شياطينه الطائفية والمذهبية الداخلية، وتعميم رؤية وطنية على قاعدة مواطنية ديموقراطية تؤكّد على حقوق الأفراد وحرياتهم وعلى المساواة التامّة في ما بينهم؛ هذا ما ينبغي أن يكون جوهر برنامج الدولة الموعودة وعمادها المواطنة الحقيقية التي تتجاوز النزاعات والانقسامات الداخلية، فضلا عن مواجهة الاحتلال والاستعباد الخارجي. الدولة هي قاعدة كرامة المواطن ،إنّها ملتقى الحرية والمقاومة من أجل تجسيد كامل أبعاد الوحدة و السيادة معا.
**