لن تعرف “إسرائيل” السلام والاستقرار ما لم تقرّ بحق الشعب الفلسطيني بدولة سيّدة ومستقلة، والمخرج الوحيد أمامها الموافقة على حلّ الدولتين الذي تحوّل إلى مطلب دولي، وليس فلسطينياً وعربياً فقط. وهذا الحلّ يجب ان ينسحب على الدول التي تسيطر عليها إيران.
تنعم دول الطوق باستثناء لبنان باستقرار ثابت، وعدم الاستقرار في سوريا لا علاقة له بالصراع مع “إسرائيل”، لأنّه منذ حرب العام 1973 ينعم الجولان بهدوء تام، والاستثناء الذي هو عليه لبنان كان مردّه إلى فتح الجبهة اللبنانية بعد إقفال الجبهات العربية، ومع خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان أمسك الرئيس حافظ الأسد بالورقة اللبنانية، ومع خروج الجيش السوري في العام 2005 أمسكت إيران بهذه الورقة بحجة انّها وفية للقضية الفلسطينية التي تخلّى عنها العرب.
وإذا كانت حجّة إيران في لبنان من وراء تأسيس ميليشيا العمل على مواجهة إسرائيل، فما حجتها في العراق بتأسيس الحشد الشعبي وفي اليمن بدعم الحوثيين؟ والمقصود قوله انّ الهدف من إنشاء «حزب الله» ليس فقط مواجهة إسرائيل، إنما يندرج في إطار المشروع الإيراني التوسعي والتمددي، وفي هذا السياق من المفيد جداً العودة إلى مقابلة أجرتها الزميلة «الشرق الأوسط» مع وزير الخارجية العراقي السابق هوشيار زيباري الذي أمضى 11 عاماً في موقعه، وقد نقل في المقابلة نقاشات حصلت مع مسؤولين إيرانيين من بينهم الجنرال قاسم سليماني، وقال زيباري حرفياً «قصة محور المقاومة نحن ناقشناها معهم مطولاً، (وكانوا يقولون لنا) أولاً إنّ نظام الجمهورية الإسلامية مهدّد من الاستكبار العالمي ومن الصهيونية العالمية، لذلك نحتاج إلى أن نحمي نظامنا ونقاتل خصومنا وأعداءنا خارج بلدنا، ونشكّل قوات غير نظامية. كان هذا أحد طروحات قاسم سليماني، أنّه ربما لا نقدر على دخول حروب تقليدية مع دول كبيرة بالتكنولوجيا وبقدراتها، لكن في الحروب غير التقليدية ممكن أن نهزمهم بالاعتماد على قوات محلية نحن ندربها ونهيئها. وهذا هو ما يحدث في المنطقة، وحالياً الحشد الشعبي أصبح واقعاً وقوة موازية للجيش، وربما أقوى في تسليحه وفي إمكانياته».
وما قاله الوزير السابق زيباري قد لا يكون جديداً، إنما أهميته تكمن في انّه صادر عن وزير خارجية ويتحدّث عن خلاصات تجربة، وينقل حرفياً عن مسؤولين إيرانيين رؤيتهم لمشروعهم الذي بدأ عملياً في لبنان مستفيداً من الحرب والفوضى، ووصل إلى العراق مع دخوله في الحرب والفوضى، والأمر نفسه بالنسبة إلى الحوثي مع انفراط الوضع اليمني، والمشترك الأساس بين الدول الثلاث التي لطهران «قوات غير نظامية» فيها انّها تحولت إلى دول فاشلة، وبالتالي ما هو جديد في حديث زيباري يكمن في كشفه محاضر نقاشات مع مسؤولين إيرانيين يؤكّدون مشروعهم التمدُّدي عن طريق الميليشيات وبما يتجاوز التقدير والتحليل.
فأقوى دولة عسكرياً في العالم اليوم هي الولايات المتحدة، ولكن مكانتها العالمية ليست متأتية حصراً من قوتها العسكرية، إنما من قوة عملتها واقتصادها وتطورها وحداثتها ونمط عيش شعبها، فما نفع قوة عسكرية لدولة يعيش شعبها في القمع والفقر؟ فالنموذج الذي تقدّمه الولايات المتحدة مثلاً يشكّل عدوى وهدفاً لكل الشعوب التواقة إلى العيش في دول تحترم حقوق الإنسان ولا أولوية لها تعلو على أولوية المواطن ومتطلباته وأمنه واستقراره، فيما لا يوجد اي شعب في العالم في وارد استنساخ النموذج الإيراني.
وقد تحولت اللبننة بين عامي 1943 و 1975 إلى مضرب مثل في العالم، على غرار المملكة العربية السعودية التي تواصل صعودها وتطورها، وتحولت بدورها إلى مضرب مثل يُحتذى من دول المنطقة، ولو كان النموذج الإيراني قابلاً للنشر والتعميم لما كانت تنشره طهران بالقوة، وما لم تقرّ إيران بفشل نموذجها القائم على ثنائية قوات نظامية شكلية وقوات غير نظامية فعلية، فيعني انّ هناك استحالة للعيش في الدول التي تتحكّم بقرارها.
فـ«الحشد الشعبي»، بالنسبة إلى الوزير زيباري «أصبح واقعاً وقوة موازية للجيش، وربما أقوى في تسليحه وفي إمكانياته»، و«حزب الله» بدوره «أصبح واقعاً وقوة موازية للجيش، وربما أقوى في تسليحه وفي إمكانياته»، وما ينطبق على الحشد والحزب ينسحب على الحوثي، ودور هذه القوات غير النظامية حال دون الاستقرار والازدهار والعدالة، وان تكون هذه الدول طبيعية في عيشها ونموها وتطورها.
والمشترك بين إسرائيل وإيران انّ الأولى ترفض حلّ الدولتين والثانية ترفضه أيضاً بحجة إزالة إسرائيل من الوجود، والمشترك بينهما أيضاً انّ تل أبيب تمنع قيام دولة فلسطينية، وطهران تمنع قيام دولة لبنانية وعراقية ويمنية، والمشترك بينهما أيضاً وأيضاً اعتقادهما انّ سلاح القوة سيمنع، بالنسبة لإسرائيل، قيام دولة فلسطينية، وبالنسبة لإيران، قيام دولة فلسطينية ولبنانية وعراقية ويمنية.
ورهان شعوب المنطقة ليس على الولايات المتحدة بطبيعة الحال التي لم تمارس الدور المطلوب منها لقيام دولة فلسطينية، إنما الرهان هو على المملكة العربية السعودية التي تنظر إليها الدول العربية والإسلامية بكونها قائدة العالمين العربي والإسلامي، وقد تحولت إلى الرقم الصعب عالمياً بفعل إمكاناتها وقدراتها وتربطها علاقات وثيقة بكل دول العالم، بدءاً من واشنطن، مروراً بموسكو وبكين، وصولاً إلى الاتحاد الأوروبي وطهران، وبالتالي الأنظار مشدودة باتجاهها في هذا التوقيت بالذات من أجل تحويل حرب «طوفان الأقصى» إلى آخر الحروب، ونقل المنطقة من عدم الاستقرار إلى الاستقرار.
فالرهان هو على السعودية من أجل الدفع نحو قيام دولة فلسطينية سيدة على أرضها، ومجرّد قيام دولة من هذا القبيل يعني سحب الورقة الفلسطينية من يد إيران، كما انّ الرهان أيضاً على السعودية من أجل ان يشكّل اتفاق بكين بين الرياض وطهران مدخلاً لتفاوض حول مستقبل المنطقة، فإما ان تكون على صورة السعودية الأولوية فيها للإنسان والاقتصاد، وإما وجب البحث عن البدائل المطلوبة لإرساء السلام والاستقرار.
فلن يتمكّن لبنان بمفرده من إيجاد الحلّ للقوة غير النظامية الممثلة بـ»حزب الله»، كونها مدعومة من إيران، ولن يتمكن العراق بمفرده من إيجاد الحلّ للقوة غير النظامية الممثلة بـ«الحشد الشعبي»، ولن يتمكن اليمن بمفرده من إيجاد الحلّ للقوة غير النظامية الممثلة بـ«الحوثي»، فهذه القوات غير النظامية ليست بوارد ان تتحوّل إلى نظامية، وهناك استحالة لتحويلها بالقوة إلى قوة نظامية، وأثبتت التجربة الطويلة انّ هناك استحالة لقيام دول طبيعية في ظل وجود قوات غير نظامية.
فلبنان سيبقى دولة فاشلة طالما انّ «حزب الله» يرفض تسليم سلاحه، والأمر نفسه ينطبق على العراق واليمن، وإذا كانت المواجهة بين السعودية وإيران لم تعالج مسألة التدخُّل الإيراني في شؤون الدول العربية، فهل انطلاق الحوار بينهما برعاية صينية في 10 آذار 2023 يمكن ان يؤدي إلى النتائج المطلوبة، خصوصاً انّ السعودية أصرّت في نص البيان الثلاثي التأكيد على «احترام سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية»، وذهبت أبعد من ذلك بعد شهرين على اتفاق بكين في اجتماع القمة العربية في دورتها العادية الـ32 في 19 أيار 2023، حيث جاء حرفياً في البند السادس من «إعلان جدة»: «نشدِّد على وقف التدخّلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية، والرفض التام لدعم تشكيل الجماعات والميليشيات المسلّحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة. ونؤكّد على انّ الصراعات العسكرية الداخلية لن تؤدي إلى انتصار طرف على آخر، وإنما تفاقم معاناة الشعوب وتثخن في تدمير منجزاتها وتحول دون تحقيق تطلعات مواطني دولنا»؟
وما تقدّم هو أول بيان لقمة عربية لا يتحدّث فقط عن وقف التدخّلات الخارجية، والمقصود التدخّلات الإيرانية في الشؤون الداخلية للدول العربية، إنما يركِّز للمرّة الأولى على رفض دعم وتشكيل جماعات وميليشيات خارجة عن مؤسسات الدولة، اي الميليشيات الإيرانية، وهذا ما تحدّث عنه الوزير زيباري نقلاً عن مسؤولين إيرانيين، وكاشفاً بأنّه ينمّ عن استراتيجية إيرانية، وهذه الإشارة التي أُتبعت بفقرة إضافية في البند التاسع لجهة «الرفض القاطع هيمنة ثقافات دون سواها، واستخدامها ذرائع للتدخُّل في الشؤون الداخلية لدولنا العربية».
فما ورد في كل من بيان بكين و«إعلان جدة» يؤكّد بأنّ السعودية تنظر إلى العلاقة الثنائية مع إيران بكونها تشكّل مدخلاً لمعالجة إشكالية تدخّلها في الشؤون العربية، على قاعدة انّ ما لم يُعالج بالقوة والعنف والتباعد والخصومة والقطيعة، علّه يُعالج بالديبلوماسية والحوار والتواصل. وبهذا المعنى يفترض ان يشكّل التواصل السعودي والإيراني فرصةً لحل الأزمات في المنطقة، خصوصاً انّ المملكة معنية بأمن الدول العربية كلها.
وعلى رغم مآسي حرب غزة، إلاّ انّ هناك فرصةً بعد انتهاء الحرب، لدفع مسارات السلام في المنطقة قدماً، والتعويل الكبير على هذا المستوى هو على السعودية من أجل الدفع من جهة نحو تسليم إسرائيل بحلّ الدولتين في فلسطين، ومن جهة أخرى نحو تسليم إيران بحلّ الدولة الواحدة في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وفي حال رفضت طهران التخلّي عن جماعاتها المسلحة، فمن الضروري تعميم حلّ الدولتين بين الإسرائيليين والفلسطينيين ليشمل الدول التي شكّلت فيها إيران ميليشياتها.
فإما التفاهم مع إيران على حلّ الدولة الواحدة والإقلاع عن استراتيجية تشكيل قوات غير نظامية، وإما التفاهم معها على حلّ الدولتين في لبنان وسوريا والعراق واليمن، خصوصاً انّ تجربة الجماعات المسلّحة بعد عقدين من الزمن دلّت على فشلها وعقمها وكارثيتها، وعدا عن انّها تُبقي هذه الدول في حالة الفوضى والحروب والنزاعات وعدم الاستقرار، فإنّها مسرح للفساد غير المسبوق، حيث كشف مثلاً الوزير زيباري عن تبخُّر 400 مليار دولار في العراق.
ومن حق الشعوب اللبنانية والسورية والعراقية واليمنية العيش وسط استقرار وازدهار، والتجربة في كل من لبنان والعراق واليمن تشير إلى انّه من الصعوبة بمكان ان تتراجع إيران عن استراتيجية تشكّل جزءاً من علّة وجودها ورؤيتها لدورها وصراعاتها، ولذلك، يبقى الحلّ الوحيد في الذهاب سريعاً إلى حلّ الدولتين بدءاً من لبنان، إما بالديبلوماسية وإما بالأمر الواقع.