لم يعد مستبعداً حصول عدوان إسرائيلي واسع على لبنان. فهذا الاحتمال أصبح وارداً، ولو أنّه ليس حتمياً أو محسوماً. فعدا التحذيرات الأوروبية المتلاحقة التي تمّ توجيهها الى المسؤولين اللبنانيين الكبار، هنالك حسابات أكبر بدأت تتكشف من خلف الدخان المنبعث من غزة. ومن البديهي الإعتقاد أنّ “حزب الله” يدرس خطواته العسكرية، وهو يضع هذا الإحتمال أمامه على الطاولة.
في الواقع الجميع يتابع بدقة ما ستؤول إليه معركة رفح. ليس فقط كونها تمثل الحلقة الميدانية الأخيرة لحرب قطاع غزة، أو ربما النتيجة الحاسمة للتركيبة العسكرية لحركة حماس، بل أيضا لأنها ستشكل نقطة انطلاق عسكرية جديدة باتجاه “حزب الله” في جنوب لبنان كما باتجاه الضفة الغربية.
ولذلك تبدو مهمّة مبعوث الرئيس الأميركي الى الشرق الأوسط بريت ماكغورك في القاهرة اليوم مهمّة جدا، والتي وافاه اليها رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية. ويدور همس في الأروقة الديبلوماسية عن اقتراح يحمله ماكغورك ويقضي بترحيل كبار القادة العسكريين لـ”حماس” الى بلدان عربية في القارة الأفريقية مثل مصر أو الجزائر، على أن يلي ذلك تفكيك ما تبقّى من الهيكل العسكري للحركة، في مقابل إلزام إسرائيل بمنع اجتياح رفح عسكريّا وهو ما سينتج عنه إرغام مصر على استقبال الفلسطينيين الهاربين من جحيم القصف ولأسباب “إنسانية”. وبقية القصة أصبحت معروفة.
لكن ثمة معوّقات أساسية تعترض مساعي ماكغورك، منها ما هو متعلق بشخصية يحيي السنوار الذي سيختار الشهادة على الاستسلام إضافة الى العديد من المسؤولين العسكريين. وهنالك عقبة أخرى تتعلق بنتنياهو نفسه. فهل سيرضى بعدم اجتياح رفح واستكمال مشروعه بإنهاء الوجود الفلسطيني على كامل قطاع غزة؟ ذلك أن هذه الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة من الواضح أنها تعمل لتصفية القضية الفلسطينية بكاملها وتحقيق حلم الدولة اليهودية، وهي تتصرف على أساس أنه لن تردعها أي قوة في العالم حتى ولو كانت الولايات المتحدة الأميركية.
ويصبح السؤال هنا: هل فعلا ستنتهي الحرب مع إقفال ملف غزة أكان بالتفاوض أو بالنار؟
من يراقب المشهد بتمعن يلمس بوضوح أنّ الحكومة الإسرائيلية ترسم وجهتين لقواتها العسكرية لمرحلة ما بعد غزة: الضفة الغربية ولبنان.
وإذا كانت الضفة الغربية لا تشكل ساحة حرب حقيقية بسبب انتفاء القدرات العسكرية للفلسطينيين، فإن حسابات الحرب مع “حزب الله” مختلفة وتحتاج لقدرات عسكرية كبيرة ومتخصصة. ومن هنا كان لا بد من مراقبة تحركات الألوية والمجموعات العسكرية الاسرائيلية الهجومية مثل لواء “غولاني”، والتي سُحبت من غزة على مراحل وجرى إعادة تظيمها قبل نقلها الى الحدود مع لبنان.
خلال أشهر الحرب الماضية كان لبنان مطمئنا بعض الشيء الى الضمانات الأميركية. فبقيت المواجهات الحاصلة تحت سقف مضبوط. لكن بعد ما شاهدناه في مسار الحرب في غزة والتمرد الدائم للحكومة الإسرائيلية على “طلبات” واشنطن، فإنه لا بد من طرح سؤال أساسي: هل تريد واشنطن فعلا وقف الحرب في غزة أم أنها أضعف من القرار الإسرائيلي؟ وبالتالي هل الحرب هي أميركية بأياد إسرائيلية؟ ولهذه التساؤلات جوابين:
الأول للمقتنعين بالمشهد الظاهر، ومفاده أن هذه الإدارة الأميركية أضحت ضعيفة الى درجة باتت فيها غير قادرة على إلزام اسرائيل بشيء، وأن هذا الواقع قابل لأن يتكرر في لبنان، ما يعني عدم جدوى الضمان الذي يركن إليه لبنان. ويروي هؤلاء أن العلاقة الشخصية ما بين بايدن ونتنياهو لم تكن يوما جيدة. فنتنياهو لم يتلق منذ عودته الى رئاسة الحكومة الإسرائيلية في 29 كانون الاول 2022 أي دعوة لزيارة واشنطن. واللقاء الوحيد الذي جمعهما قبل اندلاع حرب غزة كان على هامش اعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول الماضي. وهو ما يعني أن بايدن لم يستقبل نتنياهو أبدا في البيت الأبيض منذ توليه الرئاسة. لكن الانطباع الغالب بأن ادارة بايدن بدت ضعيفة أمام إسرائيل، وقليلة الخبرة في شؤون الشرق الأوسط، وهو ما جعلها ترسم استراتيجية الانسحاب من المنطقة للتفرغ لأولوية إحتواء كلا من الصين وروسيا. أضف الى ذلك الحال الصحية والعمرية لبايدن ما رجح كفة الموالين لاسرائيل داخل إدارته مثل مستشار الأمن القومي جيك سوليفان وجون كيربي …. ناهيك عن عدم رغبة بايدن الدخول في صراع مع اسرائيل في سنة انتخابية.
وأما الثاني للمشككين بجدية الموقف الأميركي، والذين يعتبرون أن هنالك شيء يشبه توزيع الأدوار بين واشنطن وتل أبيب لأسباب عدة. فصحيح أن الكيمياء الشخصية بين الرجلين سلبية، لكن ما يحصل الآن هو تقاطع مصالح سياسية كبرى، وأن ما يحصل هو تنفيذ لاتفاق كبير عنوانه إعادة ترتيب المنطقة من خلال الحرب الحاصلة وعلى أساس إعادة تعديل مساحة النفوذ الإيراني في الشرق الاوسط بدءا من الساحة الفلسطينية ثم اللبنانية فالسورية. و”حزب الله” أقرب الى هذه القناعة.
والمعروف أن جو بايدن هو أصغر سيناتور أميركي (29 سنة) وأكبر رئيس (82سنة)، وهو ما يعني أن خبرته في العمل السياسي الدولي تتجاوز النصف قرن. وفي الوقت نفسه فإن نتنياهو هو صاحب أطول فترة كرئيس للحكومة في تاريخ إسرائيل بما مجموعه لأكثر من 15 سنة. وفي كتابه “مكان تحت الشمس” يفرد نتنياهو مساحة واسعة لشرح عقيدته السياسية المرتكزة على مبدأ “التشدد الواقعي”. وبالتالي فإن الرؤية السياسية لنتنياهو تتمحور حول مفهوم ديني وإيماني. ما يعني أن الرؤية السياسية العميقة قادرة على التغلب على المشاعر الشخصية وهو ما ظهر على الأقل مع مبالغة بايدن في رد فعله على “طوفان الأقصى” فكان أول رئيس أميركي في التاريخ يزور إسرائيل وهي في حالة حرب. وللتذكير يومها قال بايدن بأن الوقت حان لإعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل للذهاب الى النهاية، أما نتنياهو فقال بأن وجه الشرق الأوسط سيتغير بعد حرب غزة.
ربما كل ذلك يفسر الموقف الأميركي المتردد ظاهريا. وهو ما يجعلنا نقتنع أكثر بأن الآلة العسكرية الاسرائيلية تتحضر للتحرك باتجاه لبنان بعد إقفال ملف رفح، وطالما أن المطلوب تغيير وجه الشرق الأوسط.
ورغم ما اعتبرها تطمينات سمعها الرئيس نجيب ميقاتي من آموس هوكستين خلال مشاركته في مؤتمر ميونخ، إلا أنه لا يمكن المرور ببساطة إزاء قوله في المؤتمر نفسه بأن “الحرب الشاملة ليست الحل في لبنان” وأن الادارة الاميركية تعمل على احتواء الوضع.
لكن الإشارات الأهم جاءت من مكان آخر. فشبكة فوكس نيوز الأميركية والمعروفة بقربها من اسرائيل أوردت أنه على الرغم من الوساطات الفرنسية والأميركية، يبدو أن نشوب حرب ثانية بين إسرائيل وحزب الله أكثر قربا من أي وقت مضى.
وفي وقت تردد فيه أوساط ديبلوماسية في وزارة الخارجية الأميركية بأن الحرب في لبنان انتقلت من خانة المستبعدة الى خانة احتمال حصولها، أوردت مؤسسة “الدفاع عن الديمقراطية” في واشنطن بأن الصدام العسكري بين إسرائيل وحزب الله بات واقعا لا مفر منه، والمسألة هي مسألة وقت. والمعروف عن المؤسسة بأنها وثيقة الإرتباط بلوبي سياسي وفكري إسرائيلي، وبأنها غالبا ما تشكل صدى للحكومة الإسرائيلية.
واذا أضفنا على هذه الاشارات مؤشرات ميدانية تصبح المسائل مدعاة للقلق . فثمة رسائل بليغة تبادلها حزب الله ميدانيا مع إسرائيل واعطت أجوبة لا لبس فيها. مثلا ورغم صمت حزب الله، فإنه من الواضح أن صواريخ صفد كانت رسالة موقعة من حزب الله وبالتفاهم مع إيران أغلب الظن. فالاسلوب الاحترافي في تشتيت دفاعات القبة الحديدية لا يمتهنه في جنوب لبنان سوى حزب الله. ونوعية الصواريخ ليست موجودة سوى عند الحزب. والتاريخ الطويل من الانضباط الصارم في التنسيق مع ايران بعمليات من هذا المستوى توحي بأن إيران كانت على اطلاع كامل في العملية، خصوصا وأن في صفد منشآت عسكرية كيميائية ونوعية لاسرائيل. وبالتالي فإن الرسالة الميدانية والتي أعقبت الخطاب الغاضب لنصرالله كان هدفها التحذير من جهوزية حزب الله لرفع مستوى المواجهة. أغلب الظن أن الهدف الفعلي للرسالة جس نبض إسرائيل بالنار. لكن الجواب الاسرائيلي جاء سريعا في النبطية أي في العمق، ومع أغتيال مسؤول ميداني كان نجا قبل أيام معدودة من محاولة اغتياله. والاشارة هنا بأن اسرائيل جاهزة استخباراتيا وعسكريا حتى ولو حصلت مجازر. واستتبعت ذلك بعملية في العمق اللبناني البعيد أي قرب صيدا.
الواضح أن “اسرائيل” تتصرف وكأنها جاهزة فعلا للحرب وبأنها لا تناور. والواضح أيضا أن الأوروبيين ينقلون التهديدات “الاسرائيلية” وليس فتح أبواب التفاوض كما درجت العادة. لدرجة أن أحد مسؤولي حزب الله اصطدم بديبلوماسي أوروبي زاره في مكتبه وهو يردد تحذيراته، رافضا طريقة التعاطي.
التحذيرات الأوروبية ترتكز كلها على ضرورة تطبيق القرار 1701 من خلال صيغ تطبيقية عملية أو بتعبير آخر إقفال خط التماس الإيراني الاسرائيلي عبر الحدود اللبناني بعدما جري إغلاقه عبر الساحة الفلسطينية، وهو ما يشكل تغيير وجه الشرق الأوسط وفق تعبير نتنياهو. وفي المقابل تبدو إيران في موقع الدفاع وامتصاص الهجمة الحاصلة من دون التورط ومحاذرة الإنزلاق في مواجهة كبرى طالما أن الظروف لا تبدو سهلة وميسرة. إلا إذا كانت هنالك تفاهمات سرية وغير مرئية استطاعت قناة سلطنة عمان ترتيبها وتأمينها.
وربما لذلك تحركت اللجنة الخماسية عبر سفرائها في بيروت وبسعي فرنسي رغم عدم وجود أي معطى جدي للاستحقاق الرئاسي . ولكن الهدف الأساسي كان لتوجيه رسالة أساسيةواحدة وهي: لا خلط بين المشاريع المفتوحة جنوبا والتي تحمل طابع إقليمي وبين الانتخابات الرئاسية وإعادة ترتيب السلطة في لبنان . وبالتالي لا مكان للمقايضة أو المبادلة أو التعويض .
في الخلاصة ، إن لبنان أمام مرحلة صعبة وخطرة ولو أن مخاطر وقوع الحرب موجودة ولكنها ليست حتمية.