إذا لم تتوقف الحرب في غزة، فإنّ الشرق الأوسط كله سيبقى على برميل بارود، من جنوب لبنان إلى سوريا فالعراق واليمن. ولذلك، سيتعب عاموس هوكشتاين وسائر الوسطاء، ولكن عبثاً، لأنّ المأزق الحقيقي بين “إسرائيل” و»حماس» هو تصادم المشاريع. فكل من الطرفين يدرك أنّ الآخر يريد الهدنة ظرفياً لتدعيم موقعه العسكري والسياسي. ولذلك، لا أفق لتسويات في المدى القريب.
قبل نحو أسبوع، كان متوقعاً أن يتمّ الاتفاق على هدنة بين “إسرائيل” و»حماس». لكن هذا الاحتمال تبدّد سريعاً. واليوم، يبدو أنّ الطرفين عادا تقريباً إلى النقطة الصفر، لأنّ ثمة معطيات جديدة وطموحات وهواجس ظهرت في اللحظات الأخيرة، لدى الطرفين، وسيحاول وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن تجاوزها في جولته الجديدة.
المطلعون يقولون: هناك اختلافات عميقة بين الطرفين حول مفهوم الهدنة. فقد أدركت «حماس» أنّ بنيامين نتنياهو يريد الهدنة من أجل كسب وتخفيف الضغط الذي يتعرّض له داخلياً، سواءً من جانب ذوي الرهائن، أو من جانب خصومه السياسيين الذين يحمّلونه المسؤولية عن الفشل في تحقيق إنجازات عسكرية وعن الأكلاف الباهظة الناتجة من الحرب.
وكذلك، هو يريد الإيحاء للولايات المتحدة أنّه يتجاوب مع مطالبها بوقف النار وفتح الباب لحوار سياسي شامل حول الملف الفلسطيني، ما يسهّل موافقة الدول العربية على المضي في التطبيع.
لكن الهدف الأساسي الذي يريده نتنياهو هو كسب الوقت بجولات لوقف النار تستمر كل منها بضعة أسابيع، ما يسمح له باستهلاك سنة كاملة، تنتهي خلالها ولاية جو بايدن ويعود دونالد ترامب، كما هو مرجح حتى اليوم.
وفي خلال هذه السنة الكاملة من الحرب، المتقطعة بهدنات، سيُتاح لنتنياهو أن يحوّل قطاع غزة أرضاً محروقة، لا مكان فيها للحياة. والأمر لا يتعلق فقط بالجزء الشمالي، بل أيضاً بالوسط والجنوب، حيث الضربات التدميرية الإسرائيلية للمناطق السكنية والبنى التحتية لا تقلّ حدّة عن تلك التي عرفها الشمال. وكان لافتاً إعلان إسرائيل أمس أنّ مدينة خان يونس الجنوبية كانت المكان الذي تدربت فيه المجموعة التي نفّذت عملية 7 تشرين الأول، وأنّ فيها تجهيزات عسكرية متطورة لـ»القسام». وبهذه الذريعة، يُخشى أن تواصل إسرائيل تدمير المدينة، حيث تفيد التقارير أنّ ما تتعرّض له يتجاوز بقسوته ما جرى لمدن الشمال.
كما يُخشى أيضاً أن يصرّ نتنياهو على تنفيذ خطة تهجير الغزيين عبر رفح إلى سيناء، بممارسة الضغوط المختلفة على مصر، أو بتوجيه ضربات تدميرية للمناطق السكنية في هذه المدينة التي باتت تضمّ كثافة سكانية استثنائية، ما يجعل نتائج هذه الضربات مريعة على مستوى الخسائر البشرية.
وتقول مصادر فلسطينية: بناءً على النيات التي يعمل نتنياهو لتحقيقها، تولَّد لدى «حماس» اقتناع بأنّ الهدنة، كما يطالب بها، ليست في مصلحة المفاوض الفلسطيني، بل هي مجرد خديعة، وأنّ عواقبها ستكون وخيمة، لأنّ الإسرائيليين سيستفيدون عملياً من الأوقات المستقطعة باتفاقات الهدنة ليستكملوا الحرب بنحو أشدّ شراسة، ولن يقدّموا أي التزام سياسي.
ولذلك، أبلغت «حماس» إلى الوسطاء أنّها ترفض الهدنة الموقتة لأسابيع، وأنّ ما تطالب به هو أن توقف “إسرائيل” حربها في غزة في شكل تام، وأن تكون هناك ضمانات دولية لذلك، وأن تسحب قواتها من القطاع، وأن يتمّ في الوقت عينه تحريك الملف السياسي الإسرائيلي- الفلسطيني المجمّد، ومعه الاتفاق على إعادة إعمار غزة، لأنّ ذلك هو الأساس لعودة أكثر من مليون نازح إلى منازلهم. ولذلك، جاء طرح الإفراج عن الأسرى «بالقطارة»، بوتيرة أسير واحد يومياً، مع إبقاء الجنود حتى الأيام الأخيرة، لكي يشكّل ذلك عامل ضغط على “إسرائيل” يجبرها على وقف الحرب.
في حساب «حماس»، أنّ من الخطأ بكل المقاييس إهدار خسائر بشرية فلسطينية تقارب الـ 27 ألف قتيل و70 ألف جريح ومعوق، وتدمير أجزاء واسعة من القطاع، وإنهاء صمود المقاتلين في الأنفاق، من دون أي استثمار حقيقي في السياسة. فهي إذا وافقت على اتفاقات وقف النار بشروط “إسرائيل”، تكون واقعياً قد خدمت خطتها لكسب الوقت والالتفاف على أي مبادرة سياسية وخنقها. وتقول المصادر إنّ «حماس» تسلّمت عبر الوسطاء ورقة تتضمن خطوطاً عريضة لاتفاق الهدنة، لكنها طلبت وقتاً لدرسها.
في المقابل، يراهن “الإسرائيليون” على أنّ «حماس» مضطرة إلى الموافقة على الهدنة التي تحتاج إليها لالتقاط الأنفاس، كما يحتاج المدنيون في غزة إلى المعونات الغذائية والطبية والاستشفائية العاجلة. ولذلك، بدأت تُروَّج في الكواليس أفكاراً تتعلق بعقد مؤتمر دولي يُعنى بالملف الفلسطيني. ولكن، لا قيمة لهذا الطرح إذا كانت إسرائيل ترفض تقديم أي تنازل، ولو ضمن مبادئ اتفاق أوسلو. وهذا الأمر تعرفه «حماس». ولذلك، هي تعتقد أنّ الخسائر السياسية التي ستنتج من الهدنة، بالمفهوم “الإسرائيلي”، ستكون أكثر إيلاماً من الخسائر البشرية والمادية المتوقعة خلال الحرب. وتعتبر الحركة أنّها بالعمل العسكري استطاعت تحريك القضية الفلسطينية التي باتت طي النسيان. وهذه النقطة هي موضع تباين قديم بين الفلسطينيين أنفسهم. وتحاول “إسرائيل” استثمار هذا التباين.