على وقع المواقف المتناقضة التي يطلقها المسؤولون “الإسرائيليون” بين التهديد الصباحي بعمل عسكري في لبنان والإستعداد للتسوية مساءً، برزت للمرّة الأولى معلومات متفائلة عن احتمال التوصل الى اتفاق يعالج الوضع على جبهة «المساندة والإلهاء»، بمعزل عن التفاهمات الخاصة بقطاع غزة، قد يؤدي الى الفصل بين الجبهتين. وفي ظلّ الالتباس الحاصل، نصحت مراجع معنية بانتظار ما ستنتهي إليه مهمّة الموفد الاميركي عاموس هوكشتاين التي بدأت أمس من اسرائيل، والجديد المحتمل، قبل الحكم على مثل هذه السيناريوهات.
تعترف مراجع ديبلوماسية وسياسية مطلعة، بأنّ المنطقة التي تأثرت بعمليتي «طوفان الأقصى» والردّ الاسرائيلي بـ «السيوف الحديدية» وتردّداتها «الانفلاشية» على أكثر من ساحة بدءاً بجبهة الجنوب اللبناني امتداداً الى البحر الأحمر واليمن ووصولاً الى سوريا والعراق، قد دخلت مرحلة جديدة تنبئ باحتمال الفصل في ما بينها، إن نجحت الخطط المطروحة على بساط البحث. وتضيف لتشير الى توجّه دولي تقوده الولايات المتحدة على خلفية البحث عن إمكانية التوصل الى مجموعة من الاتفاقيات الثنائية أو الثلاثية التي يمكن ان تؤدي الى معالجة الأزمات الاقليمية المتفرّقة، والحؤول دون المواجهة الشاملة المفتوحة على شتى الاحتمالات، وليس أقلها الحديث عن حرب شاملة يمكن تحديد بداياتها ومن دون القدرة على إدارتها وما يمكن ان تؤدي اليها إن فُتحت النار على مختلف الجبهات دفعة واحدة.
ومردّ هذه المعادلة – بحسب مراجع ديبلوماسية مطلعة – الى ما تسعى إليه واشنطن في اطار توجّه جديد تسعى من خلاله الإدارة الاميركية الحالية الى تفكيك الأزمات واحدة بعد أخرى، وهي تسعى الى إقناع القوى الإقليمية بضرورة السعي معها في هذا الإتجاه الذي يمكن ان يؤدي الى تعزيز قدراتها من ضمن ما يُسمّى «الأمن الاقليمي الضيّق» في النطاق القريب من حدودها الجغرافية لكل منها. وهي خطوة يمكن ان تحفظ لها دورها الإقليمي والحدّ من طموحات البعض بالتمدّد في المناطق البعيدة منها، بما يؤدي الى استقرار اقليمي ودولي توفّره مثل هذه التفاهمات المتفرقة.
وتضيف المراجع عينها، انّ ما جرى في الفترة الاخيرة من أعمال عسكرية اقتيدت لها الأساطيل والطائرات الاستراتيجية البعيدة المدى، هدّد السلم الدولي بطريقة هي الأكثر جدّية من قبل. فمخاطر التمدّد الايراني مثلاً على شواطئ المتوسط وفي البحر الاحمر التي تبعد آلاف الكيلومترات عن طهران، ألقت بثقلها على الأمن الدولي وتوسعت مخاطرها بطريقة أيقظت العديد من القوى الإقليمية والكبرى التي يمكن ان تتعاون في سبيل الحدّ منها. ولذلك فقد تبلّغ عدد من العواصم قراءة اميركية جديدة لما يجري، تؤكّد اهمية السعي الى تفاهمات موضعية تتناول بعض الأزمات.
وتستطرد هذه المراجع لتقول عند شرحها التفاصيل المتصلة بالاستراتيجية الجديدة، انّها كفيلة بإرضاء القوى الاقليمية، وقد بدأت بترجمتها عملياً في أكثر من منطقة في الشرق الاوسط والخليج، بهدف تطويق بعض الأزمات التي تهدّد الأمن الاقليمي. ومنها على سبيل المثال:
– انّ تراجع الاميركيين وتحاشي توجيه اي ضربة مباشرة الى إيران والاستعاضة عنها بضرب أذرعها في العراق وسوريا واليمن، شكّل رسالة واضحة لطهران بغية اقناعها بأنّ ذلك سيكون وسيلة لضمان أمنها الاقليمي في الدول المحيطة بها. وهو ما سعت إليه بوأد المواجهة التي أطلّت بقرنها من باكستان بأسرع وقت ممكن، على ان تعوّض عليها بالسماح لها بالقيام بما يضمن أمنها في الدول المجاورة لها، فلا تمسّ مصالحها في أي دولة جارة لها والاستعداد لمعالجة أي أزمة بينية إن وجدت، بتفاهمات يمكن التوصل إليها مع جميع الدول المحيطة بها.
– استخدمت الولايات المتحدة المنطق عينه مع الرياض والقاهرة وعواصم عربية اخرى لمعالجة الوضع في قطاع غزة، انطلاقاً من تبنّي وجهة نظرها بالاعتراف بمبدأ الدولتين في اراضي «فلسطين التاريخية»، واستعدادها للاعتراف بالدولة الفلسطينية كخطوة اولى تمهّد إلى اقناع الجانب الاسرائيلي بهذه الخطوة التي لا بدّ منها إن أرادت تل ابيب التطبيع مع باقي الدول والتوصل الى سلام دائم وشامل مع أقرب جيرانها في أراضي السلطة، فلا تتكّرر أحداث السابع من تشرين الأول الماضي تحت أي ظرف. وهو ما تمارسه هذه الإدارة بفرض عقوبات على مسؤولين “اسرائيليين” يحرّضون على أعمال العنف في الضفة الغربية ومساءلة الحكومة الحالية للمرّة الأولى بمدى خرقها لقانون «هيلي» الذي يحدّد كيفية استخدام الأسلحة التي تزودها بها في المناطق السكنية المأهولة، وإمهالها شهرين للإجابة قبل ان تفرض عقوبات تتجاوز المسؤولين المحليين في الضفة لتطال آخرين من المسؤولين الحكوميين الذين يقودون الحملة ضدّ المدنيين وسبق لهم ان حرّضوا على الترانسفير الفلسطيني من قطاع غزة أو ضربها بالاسلحة النووية.
عند هذه المؤشرات بُني الحديث عن الإستراتيجية الاميركية الجديدة التي يمكن ان يعرف لبنان نموذجاً منها يُنهي الوضع في جنوب لبنان، مع عودة الوفد الأميركي عاموس هوكشتاين إلى المنطقة، وسط حديث بدأ يدل إلى أنّه يحمل هذه المرّة اقتراحات عملية يمكن ان تؤدي إلى «تفاهم ثنائي» بين لبنان و”اسرائيل” يُبعد شبح الحرب الشاملة التي يمكن ان تطال الأراضي اللبنانية كاملة بدلًا من بقائها محصورة ضمن قواعد الاشتباك المعمول بها بين «حزب الله» واسرائيل بطريقة التزمها الطرفان حتى اليوم، باستثناء العمليات الأمنية التي يمكن ان تستهدف شخصيات فلسطينية في اي منطقة لبنانية، شبيهة باغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» الشيخ صالح العاروري في قلب الضاحية الجنوبية، مع الفصل التام بين ما يجري على الساحة اللبنانية وما يجري على الساحة السورية، عندما استُهدف المستشارون الإيرانيون، وعدم ربطها من وجهة نظر واشنطن بما يجري في قطاع غزة ولبنان.
وفي إطار الربط بين ما تخطّط له الإدارة الاميركية وما يجري على ساحة الجنوب من عمليات عسكرية، كشفت المعلومات التي تسرّبت من واشنطن وتل أبيب معاً، بأنّ هوكشتاين يحمل للمرّة الأولى مجموعة من الاقتراحات المحدّدة الهادفة الى أمرين: أولاهما يتحدث عن تجميد العمليات العسكرية على الحدود، ليعود النازحون من جانبيها إلى قراهم بطريقة آمنة، وثانيهما بدء الاجتماعات الهادفة إلى تظهير الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة وتسوية الخلافات الناشئة عند النقاط المتنازع عليها، بالتزامن مع تعزيز مواقع الجيش اللبناني على الحدود، بما يضمن وجود قوى لبنانية شرعية لا يمكن لإسرائيل ان تعترض على اي إجراء يمكن ان يتخذه «جيش شرعي» ينهي الوجود المسلح غير المعترف به دولياً وأمنياً على الحدود.
عند هذه المؤشرات التي لا يمكن الفصل من اليوم بإمكان التوصل الى فرضها وتحويلها الى وقائع ملموسة، تنتهي المراجع الديبلوماسية لتقول، إنّ الأيام المقبلة ستُظهر مدى جدّية ما هو مطروح. فالمساعي الهادفة إلى الفصل بين ما يجري في قطاع غزة وما يمكن ان يرسم مستقبل القطاع عملية صعبة، ولكن المحاولة الجارية تستحق أياماً من الإنتظار والتروي، لتبيان ما يمكن تحقيقه من كل ما سبق من سيناريوهات تمهّد للأمن والاستقرار في المنطقة إن آن أوانهما.