بعيداً من المواجهات الكلامية الحامية التي دارت على منبر ساحة النجمة، وهي في غالبيتها، استعراضات شعبوية امام كاميرات البث المباشر، كانت المواجهة الحقيقية تدور في الكواليس، بين مصرف لبنان من جهة، والحكومة والمجلس النيابي من جهة أخرى. وبعدما أنجز الحاكم بالإنابة وسيم منصوري قسماً من واجباته، من خلال منع الدولة من مدّ يدها على اموال الناس الموجودة في المركزي، أدرك انّه وصل الى مكان لم يعد قادراً معه على التقدّم اكثر، إذا لم تتحرّك «الدولة» لمواكبته في عملية رسم مسار الإنقاذ. وبما أنّ مصرف لبنان أدرك انّ الدولة عاجزة حتى الآن، عن الاعتراف بالواقع، ووضع خطة انقاذ، وهذا ما أورده في بيانه الرسمي حول الوضع المالي في المركزي، تحرّك منصوري في اتجاه الدولة، آملاً في إيجاد مناخ يساعدها في تجاوز حال العجز والانكار، ومساعدته في بعض الإجراءات التي لا تشكّل حلاً، لكنها قد تخفف من وطأة الأزمة، وتساعد في الصمود بانتظار خطة التعافي الموعودة.
ويبدو انّ منصوري كان متفائلاً في امكان الوصول الى نتيجة مع الدولة، عبر الحكومة او من خلال المجلس النيابي. ومصدر التفاؤل يرتبط بما وعد به منصوري لجهة إصدار تعميم بديل للتعميم 151 يتيح للمودعين سحب 150 دولاراً شهرياً من حساباتهم. وتعهّد منصوري امام المصارف انّه لن يصدر هذا التعميم إذا لم تتمّ تلبية مطلبه بأن تتولّى الحكومة او المجلس النيابي مسؤولية تحديد سعر دولار المصارف.
لكن، وكما هي العادة، تحوّل مطلب منصوري من الدولة الى كرة نار تقاذفتها الحكومة مع المجلس النيابي. والحق يُقال، انّ الطرفين تنصّلا من المسؤولية، لأنّه لا يوجد من يريد ان يصارح الناس بالواقع، وان يعترف بضرورة اتخاذ بعض الإجراءات العملانية، على طريق الحل الشامل الذي قد يتأخّر.
وهكذا ضاعت الطاسة بين السرايا وساحة النجمة. وخرجت الموازنة مُبهمة، حتى انّ المتابعين عجزوا عن الجزم، إذا كان هناك سعر صرف موحّد في الموازنة يمكن اعتماده ام لا.
في هذا المناخ من التهرّب من تحمّل المسؤولية امام المودعين والناس، ورغم انّ التدقيق الجنائي أشار بالأصبع الى مسؤولية الدولة في سدّ ما يُعرف بالفجوة المالية التي تجاوزت الـ70 مليار دولار، ظلّت الدولة بمسؤوليها تتصرّف وكأنّ تقرير التدقيق لم يصدر، أو كأنّه فيلم سينمائي دفعت الدولة كلفة إنتاجه وعندما صدر عرضته للمشاهدين للاستمتاع بما كشفه!