منذ اربع سنوات ونيّف، وبعد انفجار الأزمة المالية والاقتصادية في وجه اللبنانيين، كان مسموحاً في حينه البحث والتدقيق لمعرفة ماذا جرى. أين تبخرت المليارات المسجّلة في القيود المصرفية كودائع للناس؟ والسؤال الأهم الذي كان يراود الجميع، هل طارت حقوق الناس، ام يمكن استرداد الاموال ومن اين وكيف؟
اليوم، لم يعد مسموحاً طرح قسم كبير من هذه الاسئلة التي كانت مشروعة قبل اربع سنوات. ليس لأن تحديد المسؤوليات ليس أولوية، بل لأن قسماً من الاجوبة عن الاسئلة المطروحة صار متوفراً، ومن غير المنطقي مواصلة سياسة «عنزة ولو طارت».
هناك مجموعة من المحطات التي جرى فيها توضيح مصير الاموال. هذه المحطات ليست مجرد تخمينات، بل وقائع، لكن كانت تنقصها الأرقام الدقيقة. وهذا ما حصل على سبيل المثال، مع مجلس شورى الدولة في معرض قبوله الدعوى التي تقدمت بها المصارف لإلغاء بند في خطة التعافي الحكومية، يقضي بشطب الودائع. وقد جرى توصيف الوضع بطريقة واضحة، لجهة السردية القائمة، والتي لا يزال هناك من يدّعي انه غير مقتنع بها، والتي تؤكد انّ الناس وضعوا اموالهم في المصارف، والمصارف وضعت الاموال في البنك المركزي، والاخير سلّم القسم الاكبر من هذه الاموال الى الدولة، والأخيرة تولّت هدرها. وطبعاً، في معرض الهدر القائم، استفاد مَن يضع يده على مقدرات الدولة، وهم كثر، من نَتش قسمٍ من هذه الاموال لِجَيبه. لكن المفارقة هنا انّ نسبة كبيرة من الاموال المسروقة عادت الى المصارف لتغذية ودائع السارقين أنفسهم، وقامت بدورتها العادية، الى المركزي ومنه الى الدولة والهدر والسرقة من جديد…
في كل الاحوال، لا تحتاج الارقام الى الكثير من الشروحات لمَن يريد تبيان الحقائق، لكنّ المعضلة بمن لا يريد ان يقرأ او يسمع أو يرى او يصدّق او يقتنع.
قد تكون المحطة الأهم في هذا المنحى هي تلك التي تتعلق بمضمون تقرير التدقيق الجنائي الذي أصدرته «ألفاريز & مارسال» بناء على تكليف من الدولة اللبنانية التي دفعت تكاليف هذا التحقيق الجنائي من الخزينة.
المفاجأة لم تكن في مضمون التقرير نفسه، بقدر ما كانت، ولا تزال، في طريقة تعاطي السلطة معه. حتى اليوم، لم تكلّف حكومة تصريف الاعمال نفسها مَشقة مناقشة مضمون ما ورد في التقرير، ليُبنى على الشيء مقتضاه. ربما لأن «الدولة» كانت تعرف مسبقاً ما يمكن أن يُظهره التقرير، طالما انها المتهم الاول في تبذير الاموال. وربما لأن الدولة تستسهِل اتّباع سياسة الانكار والاهمال وانتظار ما سيقرره الزمن بدلاً منها. ولكن المحطة الثانية التي لا تقل أهمية عن الاولى، جاءت من مصرف لبنان، وهو مصرف الدولة المركزي، والذي قال التقرير انه كان شريكاً مع السلطة في إخفاء الخسائر المتراكمة عبر السنوات. اذ حرص المركزي على الاعتراف بالخسائر التي ذكرها التقرير الجنائي، وأعاد التذكير بمسؤولية الدولة في دفع هذه الخسائر، والتي قدّرها التقرير بحوالى 50 مليار دولار حتى نهاية العام 2020. بالاضافة الى 16,5 مليار دولار على شكل قرض حصلت عليه الدولة من المركزي، ولا تزال تدين بهذا المبلغ لمصرفها المركزي، بما يرفع الرقم الاجمالي الى 66.5 مليار دولار.
وهكذا يكون التدقيق الجنائي حسم الجدل، او هكذا يُفترض، لجهة تحديد الوجهة التي سلكتها الاموال في طريقها الى التبخّر.
هذه الحقائق لا تهدف الى اعادة التذكير بالمسؤوليات، بقدر ما تهدف الى تسليط الضوء على المسار الذي ينبغي اتّباعه لحل الأزمة. وهذا المسار سبق ان رَسمته «هارفارد»، الجامعة الأهم في العالم، وبناء على دراسة أنجزها خبراء هم من الافضل في العالم ايضاً. هؤلاء اقترحوا ان يتم تحويل الخسائر الى سندات دين تصدرها الدولة، وتضيفها الى سندات دينها العالقة بالدولار (اليوروبوند).
الجديد في هذا الموضوع انّ صندوق النقد الدولي، والذي كان يرفض فكرة تحميل الدولة اعباء اعادة الديون، ضمن مشروع استرداد الودائع، تَلقّف دراسة «هارفرد» بإيجابية، ويبدو من خلال المعطيات المتوافرة انه جاهز لمناقشة تفاصيل الاقتراح، في حال قررت الدولة اللبنانية ذلك. فهل تتحرّك الدولة في هذا الاتجاه؟ وهل مشروع ميقاتي على صلة بهذا الموضوع، ام انه لا يزال يراهن على الافكار التي وردت في الخطط الحكومية السابقة، والتي ترتكز كلها على فلسفة شطب الودائع، وهَضم حقوق الناس؟