تصدّر الساحة اللبنانية أمس، حدثٌ ينطلق من البوّابة الجنوبية وسط ازدحام مطار بيروت بالموفدين الإقليميين والدوليين الذين يصولون ويجولون على المسؤولين اللبنانيين بحثاً عن حلول لبعض الملفات العالقة: من الحدود البريّة، الى عملية التنقيب والتفتيش عن شركات جديدة للبلوكات المتبقية، وصولاً الى المبادرات الداعية الى الحوار والتفاهم لانتخاب رئيس الجمهورية.
فمن زيارة كبير مستشاري الرئيس الأميركي لشؤون الطاقة العالمي آموس هوكشتاين أمس، الى زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان الى بيروت اليوم اللتين تأتيان استباقاً للزيارة الثالثة للموفد الشخصي للرئيس الفرنسي جان إيف لودريان المرتقبة الى لبنان في أيلول المقبل، تُخلط الأوراق الحدودية والتنقيبية والرئاسية مجدّداً.
هوكشتاين وأسباب زيارته
تقول مصادر سياسية مطّلعة لجريدة «الديار» انّ هوكشتاين يقوم بزيارته الأولى الى لبنان بعد حضوره ومشاركته في توقيع «اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان و»إسرائيل» في 27 تشرين الأول من العام الماضي. وثمّة أسباب رئيسية لزيارته هذه، هي: الأول، التأكيد على دوره كوسيط أميركي في مواكبة عملية الحفر والتنقيب في البلوك 9 واستمرارها. والثاني، «إظهار الحدود اللبنانية- الفلسطينية» المحتلّة، على ما يطالب لبنان، بدلاً من ترسيم الحدود المرسّمة أصلاً، أي معالجة التحفّظات اللبنانية الـ 13 عند الحدود اللبنانية التي جرى الاتفاق على 7 منها وتبقى 6 نقاط. ويجري البحث فيها خلال المحادثات العسكرية غير المباشرة الجارية في الناقورة بوساطة «اليونيفيل».
وتؤكّد أنّ «لبنان في موقع قوّة اليوم تجعله يستطيع أخذ كلّ ما يريده في مسألة تحديد حدود لبنان البرّية أو إظهارها، كونه يفاوض من موقع الأقوى، ويتسلّح باتفاقيات الترسيم وبالخرائط والوثائق المودعة لدى الأمم المتحدة، رغم تغيّر بعض المعالم على أرض الواقع. علماً بأنّه لا يثق بنيات «إسرائيل» والتي يحاول الأميركي تحصيلها لها لتأمين أمنها ومصالحها في لبنان والمنطقة».
ولكن بما أنّه كان هناك أكثر من اتفاق، سيجري البحث حول ملكية بلدة الغجر، وهل سيدعو الترسيم البحري «إسرائيل» الى الانسحاب من البلدات التي احتلّتها في العام 1967؟ علماً بأنّ الأميركي وخلفه «الإسرائيلي» لا يعتبرانها، في المبدأ، أراضٍي لبنانية. وفي حال وافقت «إسرائيل» على الانسحاب من شمال الغجر التي أصبح اسمها «خراج بلدة الماري»، على ما طالب لبنان في الأمم المتحدة وحصل عليه، فضلاً عن انسحابها من كفرشوبا ومزارع شبعا، عندئذٍ تكون قد طبّقت القرارات الدولية ذات الصلة من دون الحاجة الى التفاوض على مسألة الحدود البريّة.
ما أروع العودة الى بيروت!!
وكان حطّ هوكشتاين صباح أمس في مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت. وفور وصوله، تناول الفطور مع السفيرة الأميركية دوروثي شيا، وكتب عبر حسابه على منصة «إكس»: من الرائع العودة إلى بيروت. قهوة سريعة ومنقوشة في الفلمنكي مع المنظر الجميل المطل على الروشة مع السفيرة الأميركية الموهوبة دوروثي شيا. وأصحب تعليقه بصورة جمعته بالسفيرة شيا يوزّعان الابتسامات.
وكانت سفارة الولايات المتحدة الأميركية أعلنت في بيان أنّ «كبير مستشاري الرئيس جو بايدن آموس هوكشتاين يزور لبنان من 30 إلى 31 آب، لمتابعة اتفاق الحدود البحرية التاريخي الذي جرى التوصّل اليه في تشرين الأول 2022، وسوف يبحث كبير المستشارين هوكشتاين في المجالات ذات الاهتمام المشترك والإقليمي». واستهل الموفد الأميركي زيارته الى لبنان، والتي التقى خلالها عدداً من القادة السياسيين والعسكريين، كما عقد لقاء موسّع مع رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي، في حضور السفيرة شيا. وتخلّلته خلوة على هامش هذا الاجتماع دامت عشرين دقيقة، استثني منها الوفد المرافق. وسأل هوكشتاين خلالها عن بعض المواقف السياسية، ولا سيما عن موقف «حزب الله» من الترسيم البرّي.
بدوره جدّد برّي شكره «للجهود التي بذلها هوكشتاين، وأثمرت البدء بعملية التنقيب في البلوك رقم 9»، مؤكّداً «أنّ جهود المجلس النيابي ستبقى منصبة على انتخاب رئيس جديد للجمهورية واستكمال إنجاز التشريعات المطلوبة في المجال النفطي وفي مقدمها الصندوق السيادي، كما التشريعات المطلوبة لإنجاز الاتفاق مع صندوق النقد الدولي».
وأكّد برّي أمام الموفد الأميركي «ضرورة وقف الانتهاكات الإسرائيلية للقرار الدولي 1701 وعلى عمق العلاقة مع قوات الطوارئ الدولية «اليونيفيل» منذ العام 1978 وحتى الآن، وأنّ لبنان حريص جدّاً على المحافظة على الاستقرار كما على سيادته على كامل التراب اللبناني».
ثمّ توجّه هوكشتاين الى السراي الحكومي حيث التقى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في حضور شيا، والمستشار الديبلوماسي لرئيس الحكومة السفير بطرس عساكر ومنسّق الحكومة لدى قوات الطوارئ الدولية»اليونيفيل» العميد منير شحادة. ومن ثمّ استبقى ميقاتي ضيفه والوفد المرافق على مأدبة الغداء التي أقامها على شرفه.
وبدأ هوكشتاين اجتماعه بالحديث عن الطعم اللذيذ لمنقوشة الزعتر والجنبة في لبنان. ودخل الى السراي وسط العتمة إذ انقطع التيّار الكهربائي لحظة وصوله، غير أنّ محاولاته لإيجاد مخرج للحدود البريّة لم تنقطع، إذ سعى الى التوصّل الى صلة معيّنة لجسّ النبض اللبناني حول هذا الملف، والى أي حدّ يُمكن أن يذهب لبنان الى الترسيم البرّي ولو بصيغة «إظهار الحدود» بوساطة أميركية.
ولوحظ أنّ الموفد الأميركي لم يشأ صبغ زيارته الى لبنان، على أنّه رسمياً الموفد الأميركي الخاص لمسألة ترسيم الحدود البريّة مع «إسرائيل»، بل لمتابعة مجريات التنقيب البحري الذي بدأ في البلوك رقم 9 ولمناقشة الأمور ذات الاهتمام المشترك، ومن بينها الترسيم البرّي وانتخاب رئيس الجمهورية ومتابعة عملية استجرار الغاز المصري الى لبنان.
ومن ثمّ توجّه هوكشتاين الى قيادة الجيش للقاء قائد الجيش العماد جوزف عون. وتحدّثت المعلومات عن إعداد القيادة مسبقاً ملفاً شاملاً عن الحدود البريّة تضمّن كلّ المستندات والوثائق والخرائط اللازمة في ما يتعلّق بالحدود البريّة اللبنانية لكي يكون جاهزاً عندما يبحث هوكشتاين الأمر مع قائد الجيش. وهذا ما حصل فعلاً.
كما التقى وزير الطاقة والمياه في حكومة تصريف الاعمال الدكتور وليد فياض هوكشتاين في السادسة والربع من مساء أمس في مكتبه في وزارة الطاقة والمياه. وتطرّق اللقاء الى أهمية التنقيب في البلوك 9 والى استكمال التلزيمات في البلوكات الأخرى.
د. خليفة: لتثبيت الترسيم
ويقول المؤرّخ والأكاديمي والخبير في قضايا الترسيم الحدودية الدكتور عصام خليفة لجريدة «الديار» في هذا السياق: «إنّ التصريح الذي أدلى به العميد الركن منير شحادة، (وهو منسّق الحكومة اللبنانية لدى «اليونيفيل»، وممثّل الجيش في لجنة الاتصال بين لبنان و»إسرائيل»)، هو الموقف الوطني الصحيح إذ أكّد الرفض التام لاستعمال مصطلح «ترسيم الحدود». ولفت الى أنّ «الحقيقة العلمية والوطنية تؤكّد أنّ الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلّة، مرسّمة في عصبة الأمم منذ العام 1923، ومثبّتة في العام 1924. ثمّ أُعيد هذا الترسيم بين لبنان و»إسرائيل» بعد «اتفاق الهدنة» الذي حصل في 23 آذار 1949 من خلال لجنة لبنانية- «إسرائيلية» مشتركة مثّل لبنان فيها الكابتن اسكندر غانم، وعن «إسرائيل» الكابتن فريد ليندر. ووُضع الاتفاق مع خريطة مرافقة بين 5 و15 كانون الأول 1949. وأُعيد إحياء النقاط الحدودية ووُضعت خريطة لذلك ومحضر موقّع من الفريقين. من هنا ضرورة عدم استعمال مصطلح «ترسيم» الحدود البريّة بين لبنان و«إسرائيل»، وإنّما مصطلح «تثبيت ترسيم الحدود».
التحفّظات… ورأس الناقورة والغجر
وفي الوقت الذي ورد فيه في اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الأخيرة، مصطلح «ترسيم الحدود البريّة» بعد البحرية، وهو خطأ… شرحت أوساط ديبلوماسية متابعة لملف الترسيم لجريدة «الديار» أنّ «ترسيم الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين قام به أولاً ضبّاط إنكليز وفرنسيون، وأنّ الخرائط ثانياً يتمّ التعديل والتغيير فيها عبر فترات تاريخية مختلفة، لهذا فهي ليست المعيار الأوحد والوحيد لتعيين الحدود أو تثبيتها». وأشارت الى «أنّ تعيين الحدود يمر في مراحل عديدة هي: التخصيص، التخطيط، المسح، التعليم على الأرض، التثبيت، الترسيم، التحديد على الورق، التوثيق، ومن ثمّ إدارة الحدود، وصيانتها.
وأشارت الأوساط نفسها الى أنّ النقاط الأكثر خلافاً اليوم هي نقطة رأس الناقورة، فضلاً عن بلدة الغجر ومزارع شبعا التي لا تزال محتلّة من القوّات الإسرائيلية. ولهذا لا بدّ هنا من الإشارة الى أنّ الحدود بين لبنان وسوريا غير مرسّمة (بمعنى أنّه لم يتمّ تسجيلها في عصبة الأمم، وبقيت مرسّمة على الخرائط التي قام بها الضبّاط الفرنسيون). وبما أنّ «إسرائيل» احتلّت مزارع شبعا في حرب حزيران 1967، فهي استولت على منطقة حدودية كانت سابقاً جزءاً من الحدود اللبنانية السورية. فأضحت مزارع شبعا قضية ثلاثية الأبعاد. وهي نقطة سيعمل هوكشتاين بالطبع على التطرّق لها في حال بدأ المفاوضات غير المباشرة على تحديد الحدود البريّة.
وكشفت أنّ لبنان طلب إعادة تعليم الحدود بين الأعوام 1949-1951 بناءً على «اتفاق الهدنة»، فقط الخط الواقع بين نقطة الحدود 38 وجسر الغجر كانت هنالك خلافات حدودية لم يتم الاتفاق عليها نظراً للتفاوت بين الخرائط البريطانية والفرنسية.
أمّا المساحة الإجمالية المطلوب إنسحاب «إسرائيل» منها، بحسب التحفّظات اللبنانية فتبلغ 485.039 متراً مربعاً.
المصدر:”الديار – دوللي بشعلاني”
**