الى أن يعود الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لو دريان منتصف ايلول المقبل، يتوقّع أن تطرأ تطورات كثيرة على جبهة الاستحقاق الرئاسي، أوّلها تبلور موقف نهائي لـ»التيار الوطني الحر» وخياراته إزاء هذا الاستحقاق في ضوء الحوار الجاري بينه وبين «حزب الله». وثانيها تبلور موقف المعارضة المتعددة المَشارِب في ضوء ما سَمعته من الموفد الفرنسي وتوجّهها الى تقديم تَصوّر موحد حول طاولة «التفاهم» التي سيدعو اليها لودريان فور عودته للبحث في برنامج الرئيس العتيد والمواصفات والمؤهلات الواجب تَوافرها فيه للاضطلاع بتنفيذ هذا البرنامج.
في زيارته الاخيرة جاء لودريان الى لبنان موفدا باسم الخماسية العربية ـ الدولية التي اجتمعت في الدوحة قبل اسابيع، فضلا عن صفته كمبعوث شخصي للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، وغالبية الذين التقاهم لم يشعروا انه حمل مبادرة فرنسية جديدة او خماسية تنسف المبادرة الباريسية القائمة على معادلة سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية مقابل رئيس حكومة من كَنف الفريق المعارض (سواء كان القاضي نواف سلام او الرئيس تمام سلام او غيرهما)، بل ان ما حمله يتماهى مع الطروحات الداعية الى الحوار في الاستحقاق الرئاسي ومهمات الرئيس ومواصفاته قبل الدخول بالبحث في الاسماء، وكان الفارق هنا استبدال تعبير «الحوار» بتعبير «التشاور»، بما يُوصِل الى الاتفاق او التفاهم على صفقة سياسية تؤدي الى اقامة السلطة اللبنانية الجديدة التي تتأخر منذ الانتخابات النيابية الاخيرة.
كذلك لم يأت لودريان بمبادرة محددة ابتَدعتها الخماسية العربية ـ الدولية التي حددت في بيانها الختامي بعد اتفاق الدولة ما يشبه خريطة طريقة لإنجاز الاستحقاق الرئاسي، أوّلها تحميل «القيادة اللبنانية» والمجلس النيابي مسؤولية الاسراع في انتخاب رئيس جمهورية جديد للبلاد «يجسّد النزاهة، ويوحّد الأمة، ويضع مصالح البلاد في المقام الأول، ويعطي الأولوية لرفاه مواطنيه، ويشكّل ائتلافا واسعا وشاملا لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الأساسية، لا سيما تلك التي يوصي بها صندوق النقد الدولي». مؤكدة انها «ناقشت خيارات محددة بالنسبة الى ما يتعلق باتخاذ اجراءات ضد اولئك الذين يُعرقلون إحراز تقدم في هذا المجال» (اي انتخاب الرئيس العتيد).
بعض الذين التقوا لودريان فسّروا تعبير الخماسية عن الرئيس الذي «يشكل ائتلافاً واسعاً شاملاً» على انه الرئيس التوافقي الذي تؤيده غالبية القوى السياسية والنيابية، وهذا الرئيس نودِيَ به ولا يزال منذ «فجر الاستحقاق الرئاسي الذي بَزَغَ قُبَيل انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 31 تشرين الاول 2022.
وقيل في هذا السياق ان لودريان عندما جاء الى لبنان في زيارته الاولى غداة جلسة الانتخابات الرئاسية التي انعقدت في 14 حزيران، توقف بعض الشيء عند الاصوات التي نالها رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية (51 صوتاً) والوزير السابق جهاد ازعور (59 صوتاً)، مُتخوّفاً من ان تكون هذه النتائج في غير مصلحة فرنجية الذي تتبنّى المبادرة الفرنسية ترشيحه، مُسقِطاً الامر على الواقع الانتخابي الفرنسي الذي يعتمد النظام الاكثري في الانتخابات الرئاسية او حتى على مستوى الجمعية الوطنية، فما كان من مُحدّثيه الّا ان اوضحوا له ان ما ينطبق على فرنسا ذات الديموقراطية، التي تقوم على حكم الاكثرية ومعارضة الاقلية، لا ينطبق على لبنان الذي يعتمد «الديموقراطية التوافقية» التي ارساها «اتفاق الطائف»، وانّ الاصوات الـ 51 التي نالها فرنجية في هذه الدورة يمكن ان تكون غيرها في جلسة لاحقة لأنّ التوافق هو مَن يُنتِج انتخاب الرئيس وليس الاصوات كعدد، واذا لم يحصل هذا التوافق يستحيل ان ينتخب الرئيس، بدليل ان كل الانتخابات الرئاسية التي جرت منذ التوصل الى اتفاق الطائف عام 1989 الى الآن انتخب فيها الرئيس توافقياً، حتى في الانتخابات الاولى التي جرت في مطار القليعات غداة إقرار اتفاق الطائف في المملكة العربية السعودية وعودة النواب الى لبنان، والتي تنافَسَ فيها الرئيس الراحل رينيه معوض والرئيس السابق لحزب الكتائب الراحل جورج سعادة، جاءت بمعوض رئيساً نطراً لتوافق الاكثرية النيابية والسياسية عليه، فيما نال سعادة اقل من 16 صوتاً ما أسبَغَ على العملية الانتخاببة طابع المنافسة الديموقراطية المعروفة النتائج مسبقاً بقوة الوقائع السياسية التي كانت سائدة في تلك المرحلة، والتي فرضت استعجال انتخاب رئيس للبلاد التي لم تكن قد خرجت من أعباء حربَي «التحرير» و»الالغاء» الشهيرتين.
على ان هذه «الديموقراطية التوافقية» معطوفة على ارادات عربية ودولية هي التي جاءت بقائد الجيش العماد ميشال سليمان الى رئاسة الجمهورية عام 2008، متجاوزة الدستور الذي يحظر انتخاب اي موظف في الفئة الاولى ما لم يكن مستقيلاً من منصبه قبل سنتين من موعد الانتخاب الرئاسي، وذلك لانعدام «التوافق الديموقراطي» يومها على أيّ من المرشحين الرئاسيين، والذين تَصَدّرهم يومها الرئيس ميشال عون، الذي كان قد مضى ثلاث سنوات تقريبا على عودته من منفاه الباريسي.
وفيما تنتفي الظروف التي يمكن ان تكرر تجربة الانتخابات الرئاسية عام 2008، فإن المبادرة الفرنسية تأخذ بأهداب الديموقراطية التوافقية اللبنانية في ان اقترحت رئيساً للجمهورية من كَنفِ فريق مُقابِل رئيسٍ للحكومة من كنف الفريق الآخر، وهو ما اعتمد في غالبية الانتخابات الرئاسية السابقة، ما خلا تَشكّل حكومات وصَفها البعض «حكومات اللون الواحد»، وهي ما كانت لتؤلف بهذه الطريقة لولا تمنّع الفريق الآخر عن المشاركة فيها.
ومع ذلك، ربما يتمنى البعض تَوَلّد ظروف في البلاد تعبد تجربة 2008، لأخذ الاستحقاق الرئاسي الى مكان آخر يخرجه من روحية المبادرة الفرنسية التوافقية الواقعية، وهذا التمني هو احد الاسباب التي تعوق انجاز الاستحقاق الرئاسي حتى الآن، ويرتكز على توقع اصحابه بروز توافق داخلي وخارجي كالذي جاء بسليمان الى رئاسة الجمهورية، وذلك في ضوء قراءة غير دقيقة لمضمون بيان الدوحة الاخير الذي يُغَلّب خيار التوافق على انتخاب الرئيس على اي خيارات اخرى على رغم تلويحه بفَرض «إجراءات» ضد «اولئك الذين يعرقلون احراز تقدم في هذا المجال» من دون ان يسمّيهم.
على انّ الدليل الى هذا الخيار التوافقي، عَكسَه سؤالان وحيدان وجههما لودريان الى جميع من التقاهم اخيراً طالباً تزويده الاجوبة عليهما، وهما:
اولاً – ما هي الملفات التي تحتل الاولوية ويجب معالجتها في بداية عهد الرئيس الجديد؟
ثانياً – ما هي المؤهلات التي يجب توافرها بالرئيس الجديد الذي يجب عليه ان يعالج هذه الملفات؟
وفي ضوء الاجوبة التي تلقاها وسيتلقاها لودريان، سيجري تقاطعات فيما بينها ويصوغها في خلاصةٍ موحّدة، ثم يجتمع مع الجميع الى طاولة تشاور لدى عودته في ايلول المقبل، بغية التوصّل الى تصور موحد حول الرئيس العتيد ومواصفاته، وعندها يترك الامر لمجلس النواب لينتخب الرئيس، سواء بجلسة واحدة اذا توافق الجميع على مرشح محدد او ترك الامر لمنافسة بين مرشحين اثنين او اكثر.
وفي انتظارعودة لودريان، فإن حلبة الاستحقاق الرئاسي تبدو محكومة بمرشحين اثنين جديين هما رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية وقائد الجيش العماد جوزف عون، فالاول ما زال المتقدم بقوة في فرصه التي يمكن ان تتعزز اكثر في حال نجح الحوار الدائر بين حزب الله و»التيار الوطني الحر»، وهذا النجاح متوقّع بنسبة كبيرة. اما الثاني فدونه موانع دستورية وأخرى سياسية مع العلم ان الرجل الذي لديه مؤهلات رئاسية ملحوظة ولكنه لم يعلن ترشيحه، مُدرِكاً أقلّه المانع الدستوري لهذا الترشيح، وان كان البعض يعتقد ان فريق المعارضة قد يتبناه في حال تبنّي «التيار» ترشيح فرنجية، ما سيفرض على هذا الفريق ان يوفّر له اكثرية الثلثين لتعديل الدستور بما يُتيح انتخابه، لكنّ المعارضين قد لا يستطيعون تأمينها ولكنهم يراهنون على معطيات داخلية وخارجية قد تأتي لمصلحتهم وقد لا تأتي، مثلما قد لا يتمكن الفريق المؤيد لفرنجية من تأمين هذه الاكثرية لانتخابه وفوزه، ما يعني ان الحل في هذه الحال لن يكون إلا توافقياً يميل لمصلحة فرنجية نتيجة تَمسّك الثنائي الشيعي وحلفاؤه الشديد بدعم ترشيحه حتى النهاية، والذي قد تتوافر له اكثرية الثلثين لنصاب جلسة انتخابه في لحظةٍ سياسية داخلية مناسبة بناء على معطيات اقليمية معينة ينتظرها المنتظرون وغير المنتظرين، خصوصا اذا أيّدَ «التيار الوطني الحر» ترشيحه، وهو ما يتوقعه كثيرون في ضوء تأكيد رئيس التيار النائب جبران باسيل استعداده لتقديم تنازلات اذا لُبّي مطلبه بإقرار «اللامركزية لادارية والمالية الموسعة» وإنشاء الصندوق الائتماني لممتلكات الدولة.
وفي اي حال، يقول المتابعون يجب انتظار نتائج حراك اقليمي ودولي يدور حالياً بعضه معلوم وبعض الآخر مكتوم، وللمملكة العربية السعودية دور اساس فيه. وكذلك يجب انتظار ما سينتهي اليه الحوار بين «الحزب» و «التيار» حتى يُبنى على الشيء مقتضاه على مستوى الاستحقاق الرئاسي، فإمّا يمضي الى حلول قُبَيل ايلول او خلاله؟ وإمّا سيبقى شرحاً يطول…
المصدر:”الجمهورية – طارق ترشيشي”
**