منذ انكشاف حجم الانهيار المالي- النقدي- المصرفي أواخر عام 2019 بعد تراكم احتقان متمادٍ منذ انقلاب المؤشرات الاقتصادية، لاسيما منها ميزان المدفوعات عام 2011، حتى أصبحت فجأة الإشكاليات الاقتصادية، ولاسيما النقدية، مادة سجال واسع النطاق وتجاذب إعلامي ونقاش مفتوح، بينما جوهر البحث يحتاج حداً أدنى من مرتكزات علمية دقيقة، لا يمكن فلشها بشكل شعبوي مهما حاولنا تبسيطها. اليوم، وبعد سقوط نظام سعر الصرف المرن في لبنان، واستحالة اعتماد نظام سعر صرف عائم في ظلّ معدّل دولرة جزئية جداً جداً مرتفع، الاتجاه الواقعي هو نحو نظام الربط الصارم لسعر الصرف المتمثّل بالدولرة الشاملة الرسمية أو رديفها «مجلس النقد»، إستناداً الى جميع النظريات العلمية النقدية المعروفة في كل الأدبيات الاقتصادية والتجارب الدولية المماثلة.. السؤال المركزي، لم يعد إذا كان يمكن الذهاب نحو هذا الخيار أو غيره. إنما كيف وبأي شروط وآلية يمكن تسهيل عملية الانتقال وضمان استدامتها؟ طبعاً الآلية التطبيقية العلمية لها أسسها وأركانها التي تحتاج تخصّصاً معروفاً، إنما من حق الرأي العام الاجابة عن السؤال البديهي الذي يرفعه الجميع: من أين الدولارات للدولرة الشاملة؟
قبل حرب 1975-1990 في لبنان، في نهاية عام 1974، لم تكن تتجاوز الودائع بالعملات الأجنبية (823 مليون دولار أميركي) 18% من إجمالي الكتلة النقدية في البلاد، وكانت أقل بكثير من الأصول الخارجية للعملات الأجنبية للنظام المصرفي (2.11 مليار دولار). وهذا يعني أنّ معظم العملات الأجنبية التي كانت تدخل لبنان كانت تحوّلت إلى ليرة لبنانية، ما أدّى إلى ارتفاع قيمة العملة الوطنية.
منذ اندلاع الحرب عام 1975، تراجعت التحويلات من الدولار الأميركي إلى الليرة اللبنانية تدريجيًا، وانعكست في النهاية مع اندلاع عملية الدولرة الجزئية غير الرسمية الناتجة من الاختيار الحرّ للقطاع الخاص، في أعقاب التدهور الحاد في شراء الطاقة للعملة الوطنية، خلال الأزمة النقدية في الثمانينات، لا سيما مع التضخم الجامح في عام 1987 الذي تلاه انخفاض حاد في قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، والذي بلغ ذروته في عام 1992. وجاءت الزيادة في الودائع بالعملات بعد ارتفاع فائض ميزان المدفوعات تقريبًا، في نهاية عام 1992، 63% من إجمالي المعروض النقدي. خلال هذه الفترة، بدأ الدولار الأميركي يحتل مكان الليرة اللبنانية بوظائفها الثلاث: وحدة التسعير والحساب، وسيط التداول والدفع في التبادل التجاري، والادخار. ارتفع سعر الصرف، الذي كان قبل الحرب 3 ليرات لبنانية/ دولار أميركي، إلى أكثر من 2850 ليرة لبنانية / دولار أميركي في نهاية عام 1992.
منذ عام 1993، تخلّى لبنان عن نظام سعر الصرف العائم ليتبنّى نظام ربط انزلاقي من 1993 إلى 1997، يسمح بتخفيض سعر الصرف تدريجيًا حتى تطبيق نظام الربط المرن لعملة واحدة، يربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي بسعر الصرف بهامش 1501-1514 ومعدّل متوسط 1507.5 منذ عام 1997.
في الوقت نفسه، منذ عام 1993، بدأت تتنامى الفجوة بين نمو الودائع بالعملات الأجنبية والأصول الخارجية للنظام المصرفي، وأخذت تتسع تدريجياً. وفي محاولة لاستعادة الثقة بالليرة اللبنانية، إنتهج مصرف لبنان سياسة ترسيخ قيمتها، ولكن كان لها تأثير سلبي يتمثل في تعميم استخدام الدولار في المدفوعات الداخلية، خصوصاً بعد إنشاء غرفة المقاصة للشيكات بالدولار الأميركي بدءًا من عام 1994. وبعدها تطوّرت الدولرة باتجاه أجهزة الصرّاف الآلي التي أخذت تمتلئ بالدولار الأميركي، خلافًا لما هي حال جميع البلدان التي لا تملأ أجهزة الصراف الآلي سوى بالعملة الوطنية التي يمكن للمصرف المركزي للبلاد طباعتها، خشية من تعميم التداول الورقي بالعملة الأجنبية واستخدامها لتبييض الأموال والمضاربة على العملة الوطنية في السوق السوداء…. ثم تضمن العملة الوظيفة الثالثة لأي عملة، وهي أن تكون أداة صرف. وقد تمّ تأكيد هذا الاتجاه مع تثبيت سعر الصرف عند 1507.5 ليرات لبنانية بدءًا من نهاية عام 1997. وبالتالي، فإنّ المدفوعات بالدولار لا تتمّ فقط عن طريق بطاقات الدفع أو الشيكات المسحوبة على الودائع، ولكن أيضًا عن طريق الأوراق النقدية. بالإضافة إلى السماح بعمليات التحويل التلقائي من الليرة اللبنانية إلى الدولار الأميركي. وأدّى استخدام العملة كأداة دفع إلى تطوير منح قروض مصرفية للقطاع الخاص بالدولار الأميركي للسوق الداخلية، ومنحها حتى لمن مدخولهم بالليرة اللبنانية، بما في ذلك من مخاطر تقلّب سعر الصرف وعدم إمكانية السداد كما حصل بعد 2019، حتى تمّ السماح لهم بالتسديد بالليرة اللبنانية وعلى سعر الصرف الرسمي. وهذه خيارات تؤدي في جميع مصادرها إلى خلق المزيد من النقد عن طريق «مضاعف الائتمان» .. حيث يتبيّن صوريًا أنّ الودائع تتزايد بالدولار، وهي معظمها مجرّد تحويل ودائع من الليرة إلى الدولار من دون غطاء دخول دولار فعلي وتحديداً من تراكم عجوزات ميزان المدفوعات منذ عام 2011. وكذلك عمدت الدولة اللبنانية إلى دولرة متنامية للدين العام، بما في ذلك من مخاطر صعوبة التسديد، وتوّجهتها من خلال «الهندسات المالية» التي كان من أهدافها تخفيض وهمي لخدمة الدين العام، لأن الفوائد على الأوروبوند أقل من الفوائد على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية (بفعل فرق عامل المخاطرة بين العملتين) فضلًا عن محاولة تسويق الأوروبوند في الأسواق المالية الدولية (الأمر غير الممكن بالنسبة لسندات الخزينة بالليرة اللبنانية).
تمّ الحفاظ على هذا الوضع طالما كان ميزان المدفوعات فائضًا، أي حتى عام 2011 الذي بدأ فيه ميزان المدفوعات في تسجيل تراكم للعجز (باستثناء عامي 2016 و 2017 بسبب «الممولين الهندسيين»، والذي جعل من الممكن جذب رأس المال بالدولار الأميركي من الخارج لاستثمارها في سندات اليورو وشهادات الإيداع بالدولار الأميركي لدى مصرف لبنان). منذ عام 2011، اتسعت الفجوة بطريقة بارزة، مثل «تأثير القمع» بين الودائع بالدولار الأميركي التي كانت تتزايد بوتيرة متسارعة، والأصول الخارجية للنظام المصرفي التي بدأت في الانخفاض، مما قلّل تدريجيًا من القدرة على تلبية جميع طلبات سحب ودائع العملاء بالعملة الأجنبية في عام 2019 ، مما سلّط الضوء على انهيار نظام 2019، مع العلم أنّ مصرف لبنان لا يستطيع طباعة الدولارات لتزويد المصارف، واحتياطياته من العملات الأجنبية بدأت في النضوب (بسبب التدخّل المستمر على العملات الأجنبية) في سوق الصرف للحفاظ على تثبيت سعر الصرف، ومشاركته في تمويل الدولة سواء عن طريق سندات الأوروبوند أو التمويل المستمر لشراء الوقود للكهرباء أو لضمان الدولارات للواردات المختلفة بسعر الصرف الرسمي، فضلًا عن سياسة الدعم ومن ثم منصة صيرفة»..
باختصار، كل الأمكنة التي تمّ فيها توظيف الودائع بالدولار الأميركي (الدولة والمصرف المركزي والقطاع الخاص) تخلّفت عن إعادتها بالدولار الفعلي النقدي الى المصارف، فهي إما أعلنت العجز عن السداد (الدولرة) أو سدّدتها بالليرة اللبنانية أو بشكل تدريجي أقل من قيمتها وفق سعر السوق..
بعد تجاوز عتبة 80% من الدولرة الجزئية في لبنان، لم يعد المقدار الضروري من احتياطيات العملات الأجنبية مرتفعًا للتحول المحتمل إلى نظام الربط الصارم عبر الدولرة الشاملة، لأنّه يحتاج فقط تغطية القاعدة النقدية بالدولار الأميركي (وليس كل الكتلة النقدية): أي النقد المتداول خارج النظام المصرفي، بالإضافة إلى الاحتياطيات الإلزامية بشكل أساسي على الجزء من الودائع التي سيتمّ سدادها «بالدولار الأميركي الجديد» بالإضافة إلى الحدّ الأدنى من الودائع التي سيتمّ تحويلها إلى الليرة اللبنانية (لأنّه سيتعيّن تقسيمها على سعر السوق بعد شهر من التعويم الحرّ، لتحويلها مرة أخرى إلى «دولارات جديدة»). فليس من الضروري تكوين احتياطيات إلزامية على جزء من الودائع التي سيتمّ تحويلها إلى أسهم وسندات. إذا اعتبرنا مثلًا أنّ مجموع الأوراق النقدية المتداولة هي 75 تريليون ليرة لبنانية أو بسعر صرف 100.000 كاليفورنيا يتطلّب: 0.75 مليون دولار أميركي) التغطية اللازمة للودائع بالدولار الأميركي حتى 100،000 دولار أميركي وفقًا لخطة الحكومة اللبنانية: 19 مليار دولار والتي تتطلب احتياطيات مطلوبة (14%) بقيمة 2.66 مليار دولار (بمعدل مرجعي 100،000 يبقى 2.66 مليون دولار أميركي).
الودائع المتبقية بالدولار الأميركي: 101394 – 19 = 82394 مليار دولار (والتي لن يتمّ إرجاعها جديدة ولا تتطلب تغطية كاملة في الاحتياطيات الجديدة .. يجب تحويلها إلى ليرة لبنانية ثم تقسيمها على سعر الصرف في السوق. افترض أنّ التحويل إلى ليرة لبنانية بسعر 15000 ثم أقسم على 100000 للتحويل إلى دولار أميركي جديد، للاحتفاظ باحتياطي 14% (بمعدل 100000: 14% * 82494 * 15000/100000 = 1.732 مليون دولار أميركي). الودائع بالليرة اللبنانية: 47535 مليار ليرة تُقسّم على 100،000: 0.475 مليون دولار.
بذلك يكون المبلغ المطلوب من الاحتياطيات بالدولار الأميركي لتغطية القاعدة النقدية بسعر السوق البالغ 100000 دولار أميركي / ليرة لبنانية، ستتمّ تغطية القاعدة النقدية فقط بـ :: 0.75 + 2.66 + 1.732 + 0.475 = 5.617 مليار دولار.
وبحسب الميزانية العمومية لمصرف لبنان في آذار 2023 ، تبلغ الاحتياطيات المتبقية في مصرف لبنان بالدولار الأميركي 9.5 مليار دولار، إضافة إلى 5.03 مليارات دولار من سندات اليورو التي أعلنت الدولة اللبنانية عن عدم سدادها. فيما بلغ احتياطي الذهب حوالى 16.65 مليار دولار. وسيحدّد هذا المبلغ من الدولارات الحجم الفعّال الجديد للاقتصاد، وسيُلزم الدولة باعتماد صرامة في الميزانية لتجنّب حدوث عجز وإلزام البنك المركزي بتكوين أموال لتغطيتها.
الانتقال إلى الدولرة الشاملة هو أعلى مستوى للإصلاح النقدي الذي يجب أن ترافقه مجموعة من الإصلاحات المالية والمصرفية والاقتصادية والإدارية اللازمة … والصدمة الإيجابية الناتجة من هذا الانتقال ستعيد الثقة في الاقتصاد اللبناني وبعودة الاستقرار في الحسابات بعملة دولية ثابتة، وتشجيع الاستثمار والنشاط الاقتصادي والسياحي وسرعة تداول الدولارات المجمّدة اليوم من قِبل الأفراد والشركات خوفاً من الغد.
إنّ القرار الرئيسي بوضع حدّ لازدواجية النقد التي تسبّب اليوم كل الفوضى في الأسواق، وأبشع أنواع قلّة العدالة بين أفراد المجتمع الواحد والتفاوتات الاجتماعية الناتجة من دولرة كل الفواتير حتى منها احتساب كلفة خدمات الدولة، فيما لا يزال جزء كبير من المواطنين يتقاضى مدخوله فقط بالليرة اللبنانية..
طباعة الليرة المستمرة، لم تعد اليوم سوى مصدر فقر لحامليها ومصدر ثروة للمضاربين عليها والمتسببين بتدهور قيمتها…
المصدر:”الجمهورية – د. سهام رزق الله”
**