لأنّ طاقم السلطة مقيم سعيداً إلى ما لا نهاية والانهيار لا قعر له، ولأنّ لا مساعدات عربية أو دولية في غياب الإصلاحات، ثمة 3 «مناجم» وطنية ما زال هذا الطاقم يفكر في وضع اليد عليها، لعلّها تعيد العجلة إلى الدوران… ومعها عمليات النهب، لسنوات أخرى.
«المناجم» الثلاثة التي يفكر الطاقم في السطو عليها هي:
– «المنجم» الأول هو أملاك الدولة ومرافقها ومؤسساتها المنتجة. ويتمّ التحضير بهدوء للسطو عليها تحت عنوان: تعويض المودعين أموالهم الضائعة. فتصبح هذه الموجودات جزءاً من الحسابات المصرفية، فيتمّ تسييل بعضها أو تلزيمه للقطاع الخاص. وهنا، يختلط الحابل بالنابل، في غياب أي شفافية.
المصارف تقول إنّها وضعت الودائع في مصرف لبنان، فقام بتسليفها للدولة التي أهدرتها. ووفق المقولة التي يتمّ تسويقها، يصبح لزاماً على «الدولة» بمؤسساتها كلها أن تبيع ما عندها أو تؤجِّره، وتعيد الأموال إلى المركزي، ليعيدها بدوره إلى المصارف، فيسترجعها المودعون.
طبعاً، هذه المقولة تنطوي على الخداع. لأنّ المنطق القانوني يستدعي أن تبقى موجودات الدولة ملكاً للشعب كله، وأن يُفتح تحقيق شامل يكشف المسؤولين عن الهدر والانهيار، داخل القطاع المصرفي والسلطة والمؤسسات. والذين تثبت مسؤوليتهم عن هدر المال العام وارتكاب التجاوزات، توضع اليد على ممتلكاتهم المقيمة والمحوّلة والمهرّبة، ومنها يتمّ تعويض المودعين.
– «المنجم» الثاني هو الاحتياط من الذهب. وقد أعلن مصرف لبنان أخيراً أنّ التدقيق أظهر عدم المسّ به. علماً أنّ الكمية الأكبر من موجودات الذهب ليست في لبنان. وفي أي حال، لا أحد يستطيع الاطمئنان إلى ما يفكر فيه طاقم السلطة بالنسبة إلى الذهب، وهو الذي ارتكب عمليات نهب مريعة للمال العام، على مدى عقود.
– «المنجم» الثالث هو الموارد النفطية. علماً أنّ المفترض هو إدخال غالبية أموال الغاز والنفط في صندوق سيادي يتوجب إنشاؤه لهذه الغاية، وتكون موجوداته مصانة كما احتياط الذهب، كجزء من مخزونات الدولة التي لا تُمسّ. ولا يقتطع من الموارد النفطية سوى جزء صغير يُستخدم في تحسين النمو.
وعلى الأرجح، طاقم السلطة يعوّل على هذا المنجم خصوصاً، لأنّ مردوده يفترض أن يكون هائلاً. وإذ يماطل الطاقم في اعتماد أي خطة إصلاح حقيقية، استجابة لمطالب صندوق النقد الدولي والجهات المانحة، فإنّه يراهن على تدفق المليارات السهلة مجاناً من قاع البحر، فتقع بين يديه ليتصرف بها من دون شفافية، ولا رقابة.
ولذلك، أصبحت وزارة الطاقة، التي لطالما كانت وزارة عادية، أهم الوزارات على الإطلاق، وعليها تنشب الخلافات عند تأليف الحكومات، ويتمّ إجراء المقايضات. ففي رصيد هذه الوزارة عشرات المليارات الموعودة.
ولكن، هل ما زال طاقم السلطة يمتلك فعلاً هامش الاستمرار في نهب موارد الدولة كما فعل دائماً، والسطو على الموجودات أو «مناجم الثروة» الثلاثة الباقية؟
في الواقع، لا تبدو هوامش الحركة التي يتمتع بها هذا الطاقم واسعة كما كانت سابقاً. فمنذ 17 تشرين الأول 2019، عمدت الجهات العربية والدولية بالتضييق على هذا الطاقم، وحاصرته. فلا المساعدات في وارد الوصول إلى هذه السلطة، ولا صندوق النقد الدولي مستعد لعقد اتفاق معها يكرّس استمرار السطو على أموال الدولة، ولا نهب الذهب سيكون مسموحاً به، ولا طبعاً الغاز.
لقد قام فريق السلطة بتضخيم الإيجابيات التي سيحصل عليها البلد من آبار الغاز المفترض أنّها موجودة في مياه المتوسط، وأعلن ذات يوم أنّ لبنان «صار بلداً نفطياً». وكاد المعنيون يحتفلون ببيع الغاز سلفاً عشية المباشرة بالتنقيب في البلوك 4، قبالة الشاطئ الشمالي، لكن شركة «توتال» وضعت حداً لهذا المناخ الاحتفالي، إذ أعلنت أن لا كميات تجارية كافية في هذا البلوك.
وفي الخريف الفائت، تكرَّر السيناريو الاحتفالي لمناسبة الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، إذ جاء التوقيع مغموراً بوعود المليارات التي ستعوِّم لبنان وتخرجه من الانهيار.
ولكن، ومن دون الدخول في سجال حول: مَن الرابح في هذا الاتفاق، لبنان أم إسرائيل؟ وهل كان على لبنان أن يتنازل عن الخط 29 أم لا؟ فإنّ شيئاً حتى الآن لا يوحي بأنّ البلد يسلك طريق التنقيب والاستخراج من البلوك 9.
آنذاك، تردَّد أنّ «توتال» جاهزة لاستقدام حفارة التنقيب خلال أسابيع، وأنّ المهلة المطلوبة لبدء الاستخراج من «قانا» قد يجري تقصيرها إلى 3 سنوات. وخلالها، يمكن للبنان أن يطالب الجهات المانحة بمنحه القروض بالمليارات، بكفالة كميات الغاز الموعودة.
ولكن، عملياً، بدأت إسرائيل استخراج الغاز من حقل «كاريش»، وباشرت تصديره إلى أوروبا في منتصف شباط الفائت. وأما لبنان، فلم يتقدّم قيد أنملة في «قانا»، فيما تتسرّب الوعود تلو الأخرى، وآخرها تسريبات من «توتال» ببدء التنقيب في أيلول.
لا أحد يضمن ألّا يكون هذا الوعد شبيهاً بالوعود السابقة. وفي أي حال، يعني موعد أيلول أنّ أقصى ما يمكن للبنان أن يحققه في العام 2023 هو أن يعرف إذا كان هذا الحقل يحتوي على كميات من الغاز كافية تجارياً أو لا.
بعد ذلك، ووفق الوتيرة التي يتحرّك فيها الملف، على الأرجح سيكون على لبنان أن ينتظر 5 سنوات في أفضل الأحوال لبدء الاستخراج، وستكون هناك ورشة مطلوبة منه لتحضير البنى التحتية المواكبة للاستخراج والتخزين. وفي ظل الانهيار الذي يتعمق كل يوم، هل سيكون لبنان قادراً على إطلاق هذه الورشة؟ وفي أي حال، حتى ذلك الوقت، كيف يضمن وجود الكميات الكافية تجارياً؟
عند هذه النقطة يتوقف العديد من المطلعين ويقولون: هنا يكمن لغز توقيع اتفاق الترسيم الذي يتيح لاسرائيل أن تنطلق فوراً في الاستخراج والتصدير، فيما يقف لبنان على قارعة الانتظار لسنوات، مترقباً انطلاق «توتال» في أعمالها، من دون أي التزام بضوابط زمنية. والماشي فعلاً هو «حفّارة الوعود» التي ملأت بغازاتها أجواء المتوسط وخنقتنا!
وليس مستبعداً أن يستمر الإيقاع البطيء في ملف الغاز، وأن تسود المماطلة عمليات التنقيب والحفر والاستخراج، على خلفيات سياسية. فلبنان، الواقع تحت الحصار والعقوبات العربية والدولية، لن يُمنَح القدرة على استغلال موارده الغازية. والشركات النفطية الكبرى، «توتال» وسواها، ليست مطلقة اليدين، وتحرّكها الاعتبارات والإيحاءات السياسية.
وإذا كان لبنان ممنوعاً حتى اليوم من استجرار الكهرباء والغاز من الأردن والعراق، كي يبقى تحت ضغط العقوبات، فالأحرى أن يكون أيضاً ممنوعاً من استخراج موارده الغازية، ومن توقيع اتفاق مع صندوق النقد.
كل هذا فيما الطاقم السياسي مستمر في المراهنة على كسب الوقت، وأركانه لا يعيشون هاجس إنقاذ البلد، بل هاجس إنقاذ رؤوسهم، بأي وسيلة، ولو كانت توقيع اتفاق مع إسرائيل ليست نتائجه مضمونة.
المصدر:”الجمهورية – طوني عيسى”
**