كتبت صحيفة الديار تقول: في موازاة هذا المشهد الزلزالي المخيف، يتبدّى الزلزال السياسي الذي يضرب لبنان، بهزات ارتدادية تطال كل مفاصله، يقابله الزلزال المالي الذي ترعاه الغرف السوداء التي تمعن فتكًا بلقمة اللبنانيين، وتشكّل المصارف إحدى اكثر الغرف سوادًا، برعايتها اللصوصية الناهبة لأموال المودعين، وتكديسها في خزائن اصحابها، وإهدارها حقوق اصحاب الحقوق والتعامل معهم كمتسولين لمدخراتهم، واستمرارها في جريمة تهريب الاموال إلى الخارج لمن يدفع من المحظيين، القدر الأعلى من العمولات والرشاوى. السياسة مقفلة، والأزمة الاقتصادية والمالية في تورّم يومي، وها هي المصارف تتسلل من خلف معاناة الناس، لتعلن اضرابًا عامًا، في خطوة اقل ما يُقال انّها ميليشياوية، ومشبوهة في توقيتها واسبابها ومراميها، تعيد إلى الأذهان الإضرابات السابقة التي غطّت من خلالها عمليات السطو المفضوحة على اموال المودعين، وشكّلت شرارة انهيار الليرة واشتعال الدولار. فهذا المنحى بات يؤكّد الحاجة الملحّة لوقفه وردع فلتان المصارف بإجراءات وتدابير تُخضعها وتُلزمها بإنصاف المودعين وإعادة الأموال المنهوبة في خزائنها الى اصحابها.
الزلزال، كان الطاغي الوحيد على المشهد الداخلي، ولعلّ من هوله يفترض ان تُستخلص الدروس والعِبَر؛ مَن مِن اللبنانيين من لم يسكنه الفزع من هذا الزلزال؟ مَن مِن اللبنانيين من لم يشعر بضعفه وبوهنه وبعجزه؟ مَن مِن اللبنانيين من لم يعشْ تلك الثواني الأربعين التي بدت وكأنّها عدّ تنازلي لنهايته؟ مَن مِن اللبنانيين من لم يبق حابسًا انفاسه ترقباً لعبور الهزّات الارتدادية التي تلاحقت نهار امس؟ لبنان بالأمس كان وطن الخوف، خوف لا طائفة له، ولا مذهب، ولا انتماءات سياسية، ولا عناوين سيادية او ممانعة فيه، الكلّ؛ سياسيون، احزاب، طوائف، مناطق، كانوا سواسية كأسنان المشط أمام غضب الطبيعة، وليس على رأس اي من الخائفين خيمة أو خرزة زرقاء تحميه من هول الزلزال.
ربما شاءت الطبيعة ان ترسل هذه الرسالة المدمّرة إلى اللبنانيين بكل مستوياتهم، لعلّها تُحدث بزلزالها هزّات ارتدادية في رؤوس المعطّلين، تدفعهم إلى ان يقفوا مع انفسهم وقفة تأمّل وتبصّر في تلك اللحظة التي كادت تحوّل بلدهم إلى ذكرى، ويدركوا انّ بلدهم واستمراره واستمرارهم فيه، معلّق على شعرة، واذا كانوا غير قادرين على يصّدوا غضب الطبيعة بعواصفها وزلازلها واعاصيرها، فإنّ في مقدروهم أن يكسروا مسار انهيار صنعوه بأيديهم، ويوقفوا الزلزال السياسي الذي يعطّل الحياة في هذا البلد، وينذر باسقاطه الى أعمق أعماق الكارثة.
جليد سياسي صلب
المقولة المفترضة لانخراط المشهد اللبناني تحتها، خلاصتها أنّ ما بعد الزلزال ليس ما قبله على حدّ تعبير مصادر سياسية، التي اكّدت لـ»الجمهورية»، انّ «الطبيعة تمنح اللبنانيين فرصة لأن يعودوا إلى ذواتهم، وعلى أساس ما استُجد يفترض بكل مكونات الاشتباك الداخلي ان تتعظ مما حصل، وتسلك بلبنان المسار التحصيني له».
الّا انّ المصادر نفسها تنعى هذه الفرصة أمام إصرار هذه المكونات على السير على خط الزلزال السياسي ومفاقمته، بما يعجّل بانفجاره». وقالت: «مهما اشتدت العاصفة المناخية التي تضرب لبنان، فإنّ عمرها قصير، ومحطات الأرصاد تتوقع انحسارها في غضون الساعات المقبلة، وبالتالي فإنّ الجليد الطبيعي سيذوب حتمًا، الّا انّ العاصفة السياسية التي تهبّ على البلد من كل حدب وصوب داخلي، وتقطع اوصال الملف الرئاسي، تحتاج لتجاوزها – كما يُقال بالعامية – إلى «حلم الله». ذلك انّ الجليد السياسي المتكون على مختلف الخطوط الداخلية والطرقات المؤدية إلى شيء من الانفراج، من النوع الفولاذي الصلب العصي على الذوبان وحتى على الانصهار مهما بلغت درجة حرارة وسخونة محاولات الصّهر والتذويب».
وإذا كانت مكونات الصراع والانقسام قد حسمت تموضعاتها النهائية، أكان في موقع المتفرج على أزمة اقتصادية ومالية ومعيشية واجتماعية تزداد اختناقًا وتعقيدًا على مدار الساعة، او في موقع التصادم في الملف الرئاسي، كخطوط متوازية لا يمكن ان تلتقي تحت اي عنوان من شأنه ان يحرّر رئاسة الجمهورية من قبضة الرؤى والخيارات المتناقضة، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الوضع الشاذ والميؤوس منه: كيف يمكن لهذا الجليد السياسي ان ينكسر؟ وهل ثمة قدرة جدّية وقوية من شأنها أن تجعله قابلًا للكسر؟
باريس تتمنى
كل محاولات الداخل مُنيت بالفشل، وانتقلت عيون المراقبين لترصد الاجتماع الخماسي الاميركي- الفرنسي- السعودي- القطري- والمصري في باريس، وما سيتمخض عنه، في الوقت الذي برزت اشارات سابقة له، تحصر فعاليته ضمن حدود مطالبة اللبنانيين والتمني عليهم إنجاز استحقاقاتهم والاسراع في انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة تمهّد لإنقاذ لبنان من أزمته.
فبحسب معلومات «الجمهورية»، فإنّ ما يُنقل عن الفرنسيين لا يعطي عنوانًا لاجتماع باريس أكثر من كونه تجديدًا للفرصة امام اللبنانيين لبلورة حل رئاسي، وفرنسا في صدارة الداعمين لهذا التوجّه. وكشفت مصادر ديبلوماسية لـ»الجمهورية»، انّ سلسلة رسائل بهذا المعنى ارسلتها باريس إلى القادة في لبنان، والسفيرة الفرنسية في بيروت آن غريو عكست بوضوح شديد، بأنّ باريس على التزامها بدعم لبنان، وتتملكّها رغبة فائقة في وضع حصان الحل امام العربة اللبنانية. الّا انّ الأساس في كل ذلك يبقى في أن يلقى هذا الحل الدعم، ليس من اصدقاء لبنان، بل من القادة في لبنان».
واشنطن تحذّر
اما على المقلب الاميركي، فإنّ الولايات المتحدة الاميركية، وكما يكشف عائدون منها لـ»الجمهورية»، تتقاطع مع فرنسا، وسائر الدول الصديقة، لناحية دعم لبنان واستقراره، الّا انّ حدود مقاربتها للملف اللبناني لا تتجاوز النقاشات مع الأصدقاء، على شاكلة اجتماع باريس. واشار هؤلاء، إلى انّ دعوات تلقّتها مستويات اميركية مختلفة من جهات لبنانية وسياسية ونيابية، بممارسة دور فاعل تجاه لبنان، الّا انّها لم تلق استجابة من الجانب الاميركي. وثمة اشارات واضحة واكيدة تلقّاها أصدقاء واشنطن في لبنان، بأنّها لن تتدخّل بصورة مباشرة في الملف الرئاسي اللبناني. وبمعزل عمّا إذا كانت لها نظرة معينة من بعض المرشّحين المفترضين لرئاسة الجمهورية، الّا انّها اختارت ان تنكفئ خارج خط التدخّل المباشر، وتحيّد نفسها عن اختيار او تزكية أي من المرشحين، واللبنانيون احرار في أن يختاروا لرئاسة الجمهورية من يرون فيه مصلحة لهم وللبنان.
وبحسب العائدين من واشنطن، فأنّ الاولويات الاميركية محصورة في المجال الاوكراني والحرب الباردة التي لم تعد خفية، بين واشنطن والصين، والتي بدأت تسلك منعطفات حادة في الآونة الأخيرة، وأزمة المنطاد دخلت مدار التفاعل وباتت مفتحة على احتمالات كثيرة. وتبعًا لذلك، فإنّ حضور لبنان لدى الادارة الاميركية هو حضور عرضي، وليس حضورًا يتسم بالاولوية والجدّية.
الّا انّ أخطر ما ينقله هؤلاء، يتجلّى في قراءة اميركية سوداوية للواقع اللبناني، تحذّر من مخاطر محدقة بلبنان، وتتوقع مزيدًا من التأزّم في مدى غير بعيد، وعلى مستويات مختلفة. وحيال ذلك يقول العائدون، إنّ المسؤولين الاميركيين سواء في البيت الابيض او في الخارجية الاميركية، يعتبرون أزمة لبنان بلغت مستويات ما فوق الخطورة، وانّ على اللبنانيين ان ينتشلوا انفسهم من خانة التعقيدات القائمة، ويتبعوا المسار الذي يؤدي إلى إنقاذ لبنان واستعادة توازنه السياسي والاقتصادي. وواشنطن اكّدت على اختلاف مستوياتها، وما زالت على تأكيدها، بأنّ المسؤولية الاولى والاخيرة تقع على اللبنانيين لفك هذه التعقيدات قبل فوات الأوان، وبلورة الحل الذي ينسجم مع مصلحة لبنان بانتخاب رئيس للجمهورية على وجه السرعة، ويلي ذلك حكومة جديدة تقود لبنان خارج مأزقه. ودون هذا المسار لن يجد لبنان له مخرجًا من أزمته».