أمس بدأ العمل بسعر الصرف الجديد المعتمد رسمياً والمحدّد بـ15 ألف ليرة بدلاً من 1507.5 ليرات وسطياً. لا أحد يعلم كيف اختير رقم الـ15 ألف ليرة وعلى أي أساس اقتصادي على رغم أنه لا يزيد على 25% من السعر في السوق الحرّة، ولا أحد لديه فكرة واضحة عن السند القانوني الذي بُني عليه لتعديل سعر الليرة تجاه الدولار. إذ لم يصدر أي قرار لتحديد سعر الصرف بشكل واضح وصريح لا عن وزارة المال ولا عن مصرف لبنان. كذلك لم يصدر أي قرار عن مجلس الوزراء، ولم يقرّ الأمر في مجلس النواب بشكل صريح وفقاً للمادة 229 من قانون النقد والتسليف، على رغم أن مسألة كهذه ترتّب نتائج واسعة على الاقتصاد والمجتمع، ولا سيما على القطاع المصرفي بشقّي الالتزامات والموجودات، وعلى المؤسّسات التجارية لجهة إعداد الميزانيات وتسديد الضرائب، وعلى الأفراد لجهة الضرائب والاستهلاك. باختصار، في وزارة المال يسمّى السعر المعتمد رسمياً، «سعر التداول» إذ لا وجود لسعر رسمي، وهذه الصفة هي نفسها التي تُطلق على السعر السابق المثبت.
في خطّة التعافي التي أعدّتها حكومة الرئيس حسان دياب، اعتُمد سعر صرف للدولار الواحد يبلغ 3500 ليرة. يومها كان الأمر مستهجناً باعتبار سعر الصرف المقترح يساوي أكثر من ضعفي السعر المعتمد رسمياً. وفي مرحلة ما من التفاوض مع صندوق النقد الدولي، وبالتحديد يوم كان سعر الصرف أقل من 20 ألف ليرة، اقترح ممثلو الصندوق رفع السعر المعتمد رسمياً إلى 15 ألف ليرة باعتباره أقرب إلى سعر السوق الحرّة الذي يمكن خفضه وضبطه ضمن هذا المستوى. لكن لم توافق الحكومة على هذا الأمر. ولم يعد النظر بهذا الأمر، إلا عندما أقرّت الحكومة الاتفاق مع الصندوق على مستوى الموظفين (الاتفاق الأولي)، إذ كان من أبرز شروطه أن يوافق مجلس النواب على موازنة عامة «للبدء في استعادة المساءلة المالية». وعندما نوقش مشروع الموازنة في الحكومة ولاحقاً في مجلس النواب، اقترحت مجموعة واسعة من الأسعار من أبرزها 14 ألف ليرة، 16 ألف ليرة، و20 ألف ليرة… وفي النهاية اتفق على سعر 15 ألف ليرة للدولار الواحد على اعتبار أنه رقم مناسب لتعزيز الإيرادات ولا يؤلّب الشارع ضدّ القوى الحاكمة، إنما لم يُعرف لهذا الاختيار أي سبب اقتصادي.
هذا السياق، يُعيد التذكير بالقرار الصادر في مطلع التسعينيات عندما تقرّر أن يكون سعر الصرف المعتمد 1507.5 ليرات وسطياً. لكن اللافت أن أحداً لم يجد أي سند قانوني لعملية التسعير هذه، باستثناء أن مصرف لبنان يثبّت السعر ضمن هامش 1501 ليرة و1514 ليرة، بقوّة قدرته على التدخّل في السوق بائعاً أو شارياً للدولارات. وهو أمر لا يشبه أبداً ما يمرّ به لبنان اليوم.
بهذا المعنى، يتم تكريس تعدّدية الأسعار بقرارات لا سند قانونياً لها، على رغم أن نتائجها تشمل الموازنة العامة والقطاع الخاص أيضاً. إذ يرتّب السعر الجديد نتائج واسعة في السوق، لا سيما على جبهتي الضرائب وميزانيات المؤسسات المالية. هنا يبرز دور قوى السلطة في الاهتمام بتداعيات السعر الجديد على أصحاب الرساميل حصراً، مقابل لا مبالاة على جهة الأفراد المستهلكين. فعلى رغم أنه، باعتراف صندوق النقد الدولي، هناك فجوة كبيرة في العبء الضريبي المترتب على مداخيل الأفراد، مقابل معدلات ضريبية أقل على أرباح الشركات وأصحاب الرساميل والثروة، إلا أنه بنتيجة تعديل سعر الصرف، أصبح العبء أكبر على الأفراد. وهناك مستويات عدّة تصيب هذه الفئة، أكبرها ما يصيب الضرائب المترتبة على أصحاب المداخيل بالليرة الذين بات عليهم أن يسدّدوا ضرائب أكبر نسبياً من تلك التي يسدّدها أصحاب المداخيل بالدولار، وهي أكبر حتماً من تلك التي يسددها أصحاب الرساميل والثروة. فأصحاب الرساميل لديهم القدرة على التلاعب بالتصاريح الضريبية، ولديهم مصلحة كبيرة في التصريح عن مداخيل الموظفين للتخفيف من العبء الضريبي الواقع على الأرباح.
وفي ما يلي، ثمة محاولة للإجابة على بعض الأسئلة المترتبة على نتائج تعديل سعر الصرف؛
ماذا يعني سعر الصرف البالغ 15 ألف ليرة بالنسبة للمودعين؟
اعتباراً من صباح اليوم، بدأت المصارف تسعّر التزاماتها تجاه المودعين بقيمة 15 ألف ليرة لكل دولار. بالتالي بات بإمكان المودع أن يسحب من وديعته على هذا السعر، إنفاذاً للتعميم الصادر عن مصرف لبنان الذي رفع سعر صرف دولار الوديعة من 8000 ليرة إلى 15 ألف ليرة، وخفض سقف السحب من 3000 دولار كحد أقصى إلى 1600 دولار. سيؤدي هذا الأمر إلى تباطؤ عملية تذويب الودائع، وسيمنح المودعين ليرات أكثر مقابل دولارات أقل تسحب من وديعتهم، إنما يأتي الأمر في سياق ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الحرّة، بالتالي تقلصت قيمة الليرات المسحوبة أكثر من السابق. أي أن الكمية الإضافية من الليرات لن تكون لها قيمة أكبر لشراء السلع والخدمات.
هل يؤدي التعديل في سعر الصرف إلى تعديل في سعر الدولارات المصرفية؟
خلال الأشهر الأخيرة انخفضت قيمة الدولار المصرفي إلى 14% بالدولار النقدي. وكانت التوقعات تشير إلى أنه مع ارتفاع سعر الدولار المعتمد رسمياً إلى 15 ألف ليرة، سيرتفع سعر الدولار المصرفي إلى أكثر من 20% بالدولار النقدي، أي أن التعديل سيعزّز سعر الدولار المصرفي، لكن لم يحصل ذلك لأن سعر الدولار النقدي مقابل الليرة ارتفع إلى 62 ألف ليرة، أي أن الهامش بين الدولار المصرفي والدولار النقدي بقي قريباً من حدوده السابقة. فضلاً عن أن خفض سقف السحب، ضغط بشدّة على سعر الدولار المصرفي. لذا، فإن سعر الدولار المصرفي المسحوب بشيكات لم يتعزّز، بل بالعكس سجّل انخفاضاً إلى 13% بالنسبة للشيكات المحرّرة بأرصدة صغيرة.
بالنسبة للقروض بالليرة اللبنانية لن يتغيّر شيء. أما بالنسبة للقروض بالدولار التي تسدّد بما يوازيها بالليرة، أصبحت تسدّد بشكل صريح وواضح على سعر صرف يبلغ 15 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد. وهذا الأمر محدد بتعميم صادر من مصرف لبنان. لكن إذا قرّر الزبون تسديد ما يستحق عليه من دفعات بالدولار المصرفي، فإن الأمر يتم باستنسابية تبعاً لكل مصرف، علماً بأنه لا يوجد في القانون ما يمنع تسديد كامل القرض بشيك مصرفي بالدولار إذا كان القرض بالدولار. والمصارف لا تمانع في تسديد قروض الدولار بواسطة الدولار النقدي، إنما المشكلة التي تحصل متصلة بسعر الصرف المعتمد لهذه العملية.
كيف يتم تسديد المعاملات الرسمية؟
أصدرت وزارة المال مجموعة قرارات تحدّد كيفية تسديد الضرائب والرسوم التي احتسبت في الموازنة العامة، لكن اللافت أن بعضها احتسب سعر الدولار على «صيرفة» وبعضها الآخر احتسب على أساس 15 ألف ليرة. ما جرى تعديله فعلاً هو قاعدة احتساب سعر الصرف، لكن بعض الرسوم التي ليست بالعملة الأجنبية ازدادت على أساس معدلات مختلفة عن الـ10 أضعاف التي احتسب سعر الصرف على أساسها. باختصار، هناك مجزرة تعدد أسعار صرف في وزارة المال، وبعض قراراتها أثار استهجان مجموعة واسعة من الشركات والأفراد على اعتبار أن الوزارة طلبت في بعض المجالات تسديد الضرائب والرسوم المتوجبة عليهم نقداً أو نصفها نقداً بالليرة اللبنانية. أي أن الشيك بالليرة بات نصف مقبول من الدولة اللبنانية، وهو أمر أسهم في انخفاض القيمة الاستبدالية للشيكات بالليرة بليرات نقدية، إلى 20%، أي يُحسم من قيمة الشيك 20% من أجل استبداله بليرات نقدية.
سينعكس القرار بتكريس تعددية أسعار الصرف في الميزانيات، سواء في المصارف أو لدى الشركات التجارية الأخرى. لكن بالنسبة للمصارف، حيث الالتزامات المترتبة عليها تجاه الزبائن، أي الودائع، أصبحت قيمها أكبر، فإن هذا الأمر يرتب عليها خسائر كبيرة. وهو أمر تلافاه حاكم مصرف لبنان عندما أتاح للمصارف إعادة تخمين أصولها العقارية على سعر «صيرفة»، وتسجيل نصفها في رأس المال، ما سيعوض خسائرها الكبيرة المتحققة نتيجة التعديل في سعر الصرف.
المصدر:”الاخبار – محمد وهبه”
**