لم يكن تزامن الأحداث التي مرّ بها لبنان الأسبوع المنصرم صدّفة! هذا القول لا ينبع من العدم، بل من ربط للأحداث السياسية والإقتصادية (بالتحديد النقدية)، حيث نرى أن الأسبوع المنصرم شهد عددا من الأحداث الرئيسية: قدوم الوفود القضائية والأمنية الأوروبية، إزدياد الإشتباك السياسي على إنعقاد جلسة مجلس وزراء لحكومة تصريف الأعمال، توقيف شقيق أحد شهداء تفجير المرفأ، ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء، إقرار زيادة الحدّ الأدنى للأجور في القطاع العام.
ترجمة هذه الصراعات إنسحبت على كل الأصعدة ، خصوصًا الشق النقدي، حيث واصل الدولار الأميركي إرتفاعه مُقابل الليرة اللبنانية من دون أن يكون هناك من مُبرّر إقتصادي واضح، وبالتالي يأتي العنصر السياسي ليكون المسؤول الأول عن التدهور الحاصل في سعر الصرف.
وتبحث النظرية دور الفوضى في الحياة السياسية، خصوصًا أن تسارع الأحداث يدفع بالمسؤولين إلى اللجوء إلى الفوضى، علّها تُعدّل في الواقع القائم لصالحهم (Multitudes 2003/2 page 195). وفي مقال بعنوان «السياسة والفوضى»، ترى جريدة «لوموند ديبلوماتيك» الفرنسية أن المُجتمعات الشرقية أصبحت مرادفة للفوضى، حيث بمجرد ذكر هذه المُجتمعات يأتي على بال الشخص الفوضى. وتطال هذه الفوضى كل القطاعات، حيث أنه وفي لبنان لا يُخفى على أحد مدى التعطيل الذي تُمارسه القوى السياسية في القرارات الإقتصادية ضاربة بعرض الحائط مصالح الشعب اللبناني. ويكفي ذكر أحداث قبرشمون التي عطّلت حكومة الحريري أربعين يومًا، في وقت كانت فيه التقارير الدولية تنهال على لبنان عن كارثة مالية في الأفق، وأحداث الطيّونة التي عطّلت البلد أشهرًا في وقت يعيش فيه لبنان في قلب العاصفة، والصراع الأخير على صلاحيات الحكومة، في وقت ان لبنان وصل إلى مستويات من الإنهيار تحتاج إلى تسهيل للقرارات الإقتصادية.
ما حدث في السوق السوداء الأسبوعين الماضيين، يُشير إلى أن السياسة لها يدّ، فيما يحصل من ناحية سعر صرف الدولار في هذه السوق. فالتجار الذين أخذوا في الأسبوع الأول كل ما طلبوه من دولارات على سعر صرف 38 ألف ليرة لبنانية للدولار الواحد، لم يُخفّضوا أسعارهم. أكثر من ذلك أصبحوا يشترون الدولارات على منصة صيرفة ويبيعونها في السوق السوداء، في مُخالفة واضحة للقوانين التي تُنظّم عمل الصيرفة وتجعلها خاضعة للترخيص من قبل المصرف المركزي. وعلى الرغم من ذلك لم ينخفض سعر الدولار في السوق السوداء (ضخ أكثر من 1 مليار دولار أميركي خلال أسبوع!) وهو ما يفرض وجود تلاعب واضح في السوق السوداء، لا يُمكن إلا ربطها منطقيًا بعاملين: العامل السياسي (الوفود الأوروبية والصراع الحكومي)، وعامل التهريب (سواء من خلال السلع والبضائع أو من خلال الدولارات مباشرة).
الأرقام تُشير إلى أنه في العام 2022، إستورد لبنان 19.05 مليار دولار أميركي من السلع والبضائع، بحسب ما سجّلته أرقام الجمارك، ولا يشمل بالطبع التهريب إلى الداخل اللبناني (دون المرور بالجمارك اللبنانية)، ولا الدولارات الفريش التي تمّ تحويلها إلى الخارج بهدف الإستيراد، ولم يتمّ إستخدامها بل بقيت قابعة في المصارف الأجنبية.
في المُقابل، صدّر لبنان سلعا وبضائع بقيمة 3.49 مليار دولار أميركي بحسب أرقام الجمارك، وهي أموال إستفاد منها المصدّرون، ولم تعود إلى لبنان بالضرورة أو أقلّه قسم منها، فقط عاد إلى لبنان على شكل مواد أوّلية! أما فيما يخص تحاويل المغتربين، فتُشير التقديرات إلى أنها ستكون بحدود الـ 6.8 مليار دولار أميركي في العام 2022 مما يضع لبنان في عجز في تدفقاته المالية بقيمة 8 مليار دولار أميركي في أقلّ تقدير.
إذًا، نرى أن تزامن عاملين نقديين: خروج الدولارات من لبنان وطبع الليرة لسد حاجات القطاع العام والمودعين، يؤدّي إلى تراجع هيكلي في سعر صرف الليرة مُقابل الدولار الأميركي. لكن هذا التراجع الهيكلي لا يُبرّر بأي شكل من الأشكال التراجع السريع الذي شهدناه في الأسبوع الماضي، والذي وكما ذكرنا سابقًا، لا يُمكن تبريره إلا من باب تنفيذ أجندات سياسية في السوق السوداء بهدف تأجيج الفوضى القائمة.
بالطبع التجّار يستفيدون من ارتفاع الدولار في السوق السوداء، ليس فقط بالليرة اللبنانية بل أيضًا بالدولار الأميركي. وبمقارنة بسيطة لفظاعة الإرتكابات التي يقوم بها التجار، نرى أن نفس السلعة تُباع بأسعار مُختلفة تصل إلى أكثر من 50% في بعض الأحيان. هذا الإختلاف يُبرّره التجار على أنه إختلاف في الكلفة (إيجار، كهرباء…)، إلا أن هذا العذر يسقط حين ترى أنه في نفس المنطقة، هناك تفاوت في الأسعار بنسبة تتخطى الأعذار المُقدّمة من قبل التجّار.
كل ما تقدّم لا يخفي الأسباب الهيكلية التي أوصلتنا إلى هذه المستويات، وعلى رأس هذه الأسباب يُمكن ذكر:
– فقدان النمو الإقتصادي.
– إنهيار القطاع المصرفي الذي أدّى إلى فقدان السيطرة على الكتلة النقدية.
– منع «المركزي» من تطبيق سياسته النقدية من باب الفائدة
– فقدان المودعين القدرة على سحب دولاراتهم من المصارف، وهو ما زاد الطلب على الدولار في السوق السوداء.
– حجم الدين العام الممول بنسبة 85% من أموال المودعين والتوقف عن دفعه في العام 2020 مما أدّى إلى عزل لبنان عن النظام المالي العالمي.
– الفساد المُستشري.
– الإستهلاك الهائل للدولارات من دون مدخول يوازي هذا الإنفاق.
– التهريب خارج لبنان للسلع والبضائع.
– رفع الأسعار العشوائي الذي يُمارسه التجار ، وهو ما يزيد الطلب على طبع العملة…
المُعطيات حتى الساعة، تُشير إلى إستمرار مصرف لبنان تأمين الدولارات بسقف 100 مليون ليرة لبنانية للأفراد على منصة صيرفة، ووقف تأمين الدولارات للتجار. وفي ظل فرضية إستمرار الوضع على ما هو عليه، من المتوقّع أن تستمر المضاربة على الليرة اللبنانية. هذا الأمر يزيد الضغوطات على المصرف المركزي المُقيّد بمحدودية الموارد بالعملة الصعبة، وبالتال،ي من المتوقع أن يكون هناك إجراءات سيتم إتخاذها في اجتماع المجلس المركزي لمصرف لبنان اليوم الاثنين – بحسب ما تناقلت المعلومات – مع التأكيد على أن أي إجراء يتخذه مصرف لبنان يجب أن يتزامن مع خطوات من قبل الحكومة، تتمثّل بقرار من وزارة المال جباية الضريبة على القيمة المضافة والرسم الجمركي بـ «الكاش»، وقرار من وزارة الاقتصاد بملاحقة المحتكرين والتجار المخالفين، وقرار من الأجهزة الأمنية لمكافحة التهريب عبر الحدود الذي نُحمّله المسؤولية الأولى في إستهلاك الدولارات، علّ الأيام المُقبلة تحمل حلًا سياسيًا يُخرج لبنان من الفوضى التي يعيشها.
المصدر:”الديار – جاسم عجاقة”
**