رغم كل ارتكابات شركة «ليبان بوست» على مدى 20 عاماً، منحها مجلس الوزراء في جلسة «الأمور الملحّة» براءة ذمّة رغم الدعوى ضدّها في مجلس شورى الدولة. الاستعجال مردّه أن الشركة ستشارك في مناقصة تلزيم البريد التي تفض عروضها بعد نحو شهر، وأنها تحتاج إلى براءة الذمّة لتنظيف سجّلها تجاه الدولة. وبدلاً من أن الاعتماد على تقرير ديوان المحاسبة لتفنيد مخالفات الشركة التي هدرت المال العام، ودعوة الوزراء المتعاقبين إلى جلسة مساءلة، اتُفق على مصالحة «ليبان بوست» لقاء 1.5 مليار ليرة، ما يمنحها فرصة جديدة للاستيلاء على هذا القطاع لتسع سنوات مقبلة
المشكلة الأساسية في «التسوية» التي وافق عليها مجلس الوزراء مجتمعاً تتصل بعدّة نواح:
1- لم يسأل أي من الوزراء عن المبالغ المتوجبة على الشركة منذ نهاية 2020 وحتى الساعة، فـ«ليبان بوست» ما زالت تعمل بشكل طبيعي نتيجة التمديد لها حتى نهاية أيار 2023. ويقول قرم في هذا الصدد إن هذا الموضوع «ليس عندي، بل على ديوان المحاسبة أن يُعد تقريراً آخر يغطي هذه الفترة».
2- ثمة دعوى في مجلس شورى الدولة من «ليبان بوست» ضدّ الدولة لم يصدر فيها حكم بعد، خصوصاً أن الشركة حاولت التراجع عنها ولم تقبل هيئة القضايا. وبحسب المادة 20 من قانون تنظيم وزارة العدل «لا يجوز للإدارات العامة التابعة للدولة إجراء المصالحات في الدعاوى العالقة أمام المحاكم والتي يكون للدولة علاقة بها إلا بعد موافقة رئيس هيئة القضايا ومدير عام وزارة العدل، وتعتبر باطلة كل مصالحة تعقد خلافاً لهذا النص»، لذا فإن هذه المصالحة «باطلة». لكن لوزير الاتصالات تفسيراً آخر، إذ يقول إن موجبات هذه المادة محصورة بالدعاوى الجزائية وليس الدعاوى المدنية غير المنتهية.
يؤكد قرم أنه لم يوقع براءة الذمة في انتظار كلمة ديوان المحاسبة في هذا الشأن. علماً بأن فضّ عروض المناقصة يحصل في 24 الجاري، وخوفاً من ألا تكون ثمة جلسة ثانية لمجلس الوزراء طلب قرم من مجلس الوزراء منحه تفويضاً لتوقيع العقد مع الشركة الفائزة بالمزايدة وهو ما رفضه الأمين العام لمجلس الوزراء محمود مكية كونه مخالفاً للقانون.
3- مبلغ الـ1.5 مليار ليرة الذي تقاضته المالية كان يوازي مليون دولار سابقاً، بينما لا تتعدى قيمته اليوم 37 ألف دولار، ما يعني أن الدولة خسرت نحو 963 ألف دولار. فيما يعتبر قرم أن عقد الدولة مع الشركة تمّ بالليرة اللبنانية ولا يمكنها المطالبة بدفع مستحقاتها بالدولار والعكس صحيح… إلا إذا أصدرت الدولة تعميماً يحدّد آلية تقاضي هذه العقود نتيجة المتغيّرات الاقتصادية والنقدية.
4- الواضح أن تقرير ديوان المحاسبة استقى أرقامه المالية المتعلقة بمستحقات الدولة بناء على ما خلص إليه تقرير مدقق الحسابات المكلف من وزارة الاتصالات لا مراقبين عاملين لدى الديوان. وبالتالي يقول بيضون إن هذه الأرقام ليست شاملة أو نهائية ولا تعبر فعلاً عما يفترض للدولة أن تتقاضاه من الشركة خلال الأعوام العشرين السابقة. علماً أن الديوان يذكر مجموعة مخالفات يجب أن تشكل جرس إنذار لمجلسي الوزراء والنواب خصوصاً لناحية الإيرادات المعدمة التي كانت تصل إلى الدولة والتي بلغت نحو 5 مليارات ليرة طيلة فترة عمل الشركة، في حين أن المديرية العامة للبريد أدخلت خلال سنة واحدة (1997-1998) نحو 12 مليار ليرة إلى الخزينة. ولم يعر النواب أيضاً أي اهتمام لسؤال الديوان عما يحول دون دعوة وزراء الاتصالات المتعاقبين إلى المجلس للاستيضاح عما حصل لتصبح الدولة هي المُدين لصالح الشركة المشغلة وعن سوء إدارة القطاع وانخفاض الإيرادات بهذا الشكل.
أهمل مجلس الوزراء عدّة نقاط جوهرية واردة في تقرير ديوان المحاسبة تكفي لمحاسبة الشركة وتعليق عملها ومنعها من التقدم إلى المناقصة وهي:
– تبيّن أن الدولة ما زالت تصرف سنوياً مبالغ على البريد. وتبيّن من الحساب الإداري العام للعام 2019 إن النفقات التشغيلية المصروفة من رواتب وأجور وقرطاسية وإيجارات وخلافه، بلغت 4 مليارات و120 مليون ليرة وهي عيّنة عن المبالغ التي تُصرف سنوياً على هذا القطاع بدلاً من أن تكون هذه المبالغ مشمولة ضمن العقد.
– إجراء مقاصات متكرّرة مع الشركة بالطريقة التي تمّت بها، يتضمن محاذير تعرّض المال العام للإهدار بسبب إمكانية دفع ذات الالتزامات من قبل الإدارات الرسمية لصالح «ليبان بوست» مرتين: مرّة مباشرة، ومرة عن طريق المقاصة.
– أدخلت الدولة تعديلات على العقد صبّت لصالح المشغّل، فبعدما أخلت الشركة الطابق الأرضي في المطار وأعادته إلى وزارة الاتصالات مقابل خفض بدل الاستعمال من مليون دولار إلى 600 ألف، أُعيد هذا الطابق مجدداً ليُشغّل من الشركة من دون رفع بدل الاستعمال إلى ما كان عليه سابقاً أي مليون دولار ومن دون تبرير، فنتجت منه خسارة الدولة مبلغ 600 ألف دولار سنوياً. لا بل بات إجمالي مدفوعات بدلات إيجار المكاتب التي تشغلها الشركة تبلغ سنوياً 658 مليون دولار، وخفضت حصّة الدولة من الإيرادات إلى 5% حتى مبلغ 20 مليون دولار بدلاً من 14.8، بدلاً من 10% كما كانت سابقاً.
– تقاضت الشركة بموجب التعديل، 50 ألف دولار لقاء قيامها بمراقبة شركات البريد الدولية، ما رتب هذه النفقة على عاتق الوزارة بشكل شهري وهو إجراء كان يمكن للموظفين المتوافرين لدى المديرية القيام به.
– لم يطرأ أي تعديل على بدلات إشغال مركز بيروت للفرز ومبنى رياض الصلح رغم أن تعديل العقد يقضي بزيادة هذه البدلات بنسبة 10% كحدّ أقصى بعد انقضاء 3 سنوات على تنفيذ العقد.
هذه عينة صغيرة عما كانت «ليبان بوست» تجنيه وما زالت، من الأموال العامة، وهي تشكل نموذجاً عن طريقة إدارة قطاعات الدولة التي يفترض أن تكون مُربحة وتُلزم لخدمة المواطنين ورفد الخزينة. إنما تنتهي بتحويلها إلى «بقرة حلوب» تعمل لدى الشركات الخاصة على حساب مصلحة المواطنين والخزينة والمال العام. ويبدو أن هذه هي «المعايير» الحاسمة في تلزيم مجلس الوزراء للقطاعات المنتجة؛ ففي حال فازت «ليبان بوست» بالمناقصة مجدداً، فإنها ستسيطر على «بريد» لبنان لمدّة 9 سنوات مقبلة.