تضعنا واقعة توقيف النائب البطريركي على القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة وراعي أبرشية حيفا للموارنة المطران موسى الحاج على معبر الناقورة في جنوب لبنان اثناء نقله مساعدات مالية وعينية من لبنانيين فروا مع جيش لحد عام 2000 الى فلسطين المحتلة، وامتناعه عن حضور جلسة استجوابه أمام قاضي التحقيق العسكري الأول فادي عقيقي امام انقسام وطني خطير بعد اعلان مجلس المطارنة الموارنة عقد اجتماعاً طارئاً في الديمان ودعا إلى “محاسبة كل مسؤول عما جرى مهما كان منصبه حتى إقالته”، مشيراً إلى أنه “ما كانت البطريركية تظن أنه يمكن أن تصل الى زمن يتم التعرض فيه لأسقف من دون وجه حق من دون العودة الى مرجعيته الكنسية العليا التي كان لها الدور الأول بتأسيس الكيان اللبناني”.
لم تكن المرة الأولى التي يتعرض فيها المطران الحاج للتوقيف والتحقيق ولكنها كانت المرة الأولى التي تأخذ هذا الحجم وتنحو هذا المنحى الإتهامي الخطر، بعد ان ضبط بحوزته مبالغ مالية ضخمة قدرت ب 480 ألف دولار كاش تمت مصادرتها من المطران من بينها نحو 250 ألفاً زعم انه كان يسلمها عادة لشيخ العقل الذي يتولى توزيعها على المحسوبين عليه الأمر الذي استدعى توضيح صادر عن شيخ العقل الدكتور سامي ابي المني ينفي المعلومات عن اموال تخص مشيخة العقل من فلسطين .
ولكن بعيدا عن العاصفة الهوجاء التي هبت بوجه الأمن العام والمحكمة العسكرية على خلفية توقيف المطران الحاج واستدعائه في ما بعد للتحقيق معه ، وبعيدا عن التسريبات المزعومة وكل دعوات الحقد والطائفية والتعصب والمواقف السياسية التي انقسمت بدورها بين من يرى في قضية المطران الحاج رسالة سياسية لبكركي وبين من اتهم المطران بالعمالة ونقل أموال وأدوية من لبنانيين فارين الى “اسرائيل” الى ذويهم في لبنان، نطرح السؤال: ما هو موقف القانون اللبناني من قضية المطران الحاج ، وهل يمكن محاكمة الاساقفة في الدعاوى الجزائية من اي سلطة مدنية كانت او عسكرية؟ ولماذا يصر القاضي فادي عقيقي على ملاحقة المطران الحاج؟
في القانون اللبناني يعتبر الكيان الاسرائيلي عدوا للبنان، وتعتبر الدولة اللبنانية بقوانينها النافذة ان جميع صور واشكال التعاون مع العدو الاسرائيلي هي اعمال غير مشروعة وتستحق اشد العقوبات وفق احكام قانون العقوبات العام والعسكري وقانون مقاطعة “اسرائيل” .
ان خطورة جرائم التعامل والتعاون مع العدو الاسرائيلي جعلت المشرع اللبناني اللبناني ان ينتزع هذه الجرائم من اختصاص القضاء الجزائي العادي واناطة امر الفصل فيها الى المجلس العدلي وفق احكام المادة 363 من قانون اصول المحاكمات الجزائية، والقضاء العسكري وفق احكام المادة 24 (فقرة 2) من قانون القضاء العسكري اللبناني.
وتنص المادة 285 من قانون العقوبات اللبناني على أنه ” يعاقب بالحبس سنة على الأقل بغرامة لا تنقص عن مئة ليرة كل لبناني وكل شخص ساكن لبنان أقدم أو حاول أن يقدم مباشرة أو بواسطة شخص مستعار على صفقة تجارية أو أيّ صفقة شراء او بيع او مقايضة مع احد رعايا العدو او مع شخص ساكن بلاد العدوّ”.
ووفقا للمادة الأولى من قانون مكافحة تبييض الأموال رقم 318/2001 المعدلة بالقانون رقم 547/2003 تتمثل الطبيعة القانونية لجريمة تبييض الأموال في كونها جريمة اقتصادية، إذ أن الجريمة الإقتصادية هي كل فعل أو امتناع يعاقب عليه القانون ويخالف السياسة الإقتصادية للدولة. كما أن جريمة تبييض الأموال هي جريمة تبعية، من ناحية أولى، لأنها تفترض وقوع جريمة أخرى أصلية سابقة عليها، وهي المصدر غير المشروع للأموال المراد تبييضها. ولكنها تبقى رغم ذلك جريمة مستقلة عن الجريمة الأولى، وهذا الإستقلال هو إستقلال موضوعي يترتب عليه إمكانية ملاحقة الفاعل ومعاقبته، ولو كان فاعل الجريمة الأصلية غير معاقب، لتوافر موانع المسؤولية الجزائية في حقه. ولعل هذه الطبيعة المزدوجة لجريمة تبييض الأموال هي التي تضفي عليها خصوصيتها، بالمقارنة مع غيرها من الجرائم الاخرى.
وعليه يكون القاضي عقيقي قد ارتكز في نطاق حكمه بحق المطران الحاج على احكام المادة 258 من قانون العقوبات اللبناني التي تجرم كل من تسول له نفسه اقامة صلات غير مشروعة مع العدو الاسرائيلي، واستناده أيضا الى قانون مكافحة تبييض الأموال ومقاطعة اسرائيل الذي يعاقب كل من حمل اموال من بلاد العدو وهو عمل مشبوه يحاسب عليه مرتكبيه معتبرا ان الاموال التي نقلها المطران الحاج هي ليست ملك الكنيسة انما مصدرها من عملاء في الاراضي المحتلة وطبق احكام القانون بما جرى حجزه.
أما في ما يتعلق بنطاق الحصانات المكرّسة في الدستور والقانون اللبنانيين التي تحدد مسؤولية رئيس الجمهوريّة ورئيس مجلس الوزراء والوزراء والنواب كما مسؤولية القضاة والمحامين والموظفين العموميين، وعن اصول الملاحقة، والجهة القضائية المختصة بالمحاكمة، لا نجد نص قانوني يتعلق بحصانة جزائية للمرجعيات الدينية في لبنان خاصة أنه وفي ظلّ طبيعة النظام اللبناني وتعطيل الآليات الدستورية بفعل “النظام التوافقي” بين مكونات طائفية مختلفة، تبدو المسؤولية الجزائيّة الوسيلة الوحيدة، وربما الأنسب، لمحاسبة حكّام ومسؤولين متّهمين بأفعال جرمية.
ولكن من يسمع كلام مجلس المطارنة الموارنة يخيّل إليه أنّ هناك نصّاً في القانون اللبناني يعطي شرعيّة للطوائف تخوّلها تأمين حصانة لرجال الدّين وتعفيهم من الحضور أمام القضاء، إلّا بإذن من مجلس الطائفة أو ما شابه. لكنّ، الحقيقة ليست بهذه البساطة، فوجهة النظر التي طرحتها بكركي في موضوع محاكمة المطران الحاج ، تقابلها حقيقة تؤكد على انه لا يوجد نص في القانون اللبناني يقر بـ”حصانة لرجل الدين”. لكن موقف البطريرك الراعي ومعه المرجعيات الدينية في لبنان من ملاحقة رجال الدين أمام القضاء المدني هو عرف ويعبّر عن حالة معنويّة ينتجها الواقع الاجتماعي اللبناني وليس بالقانون. فحتّى لو كان للطوائف شرعها وقوانينها الخاصّة في محاكمة رجال الدين، إلا أن ذلك لا يعني أن القانون اللبناني ينصّ على شرعيّتها.
بين وجهة نظر أولى تقول بمحاكمة الطوائف رجال دينها، وثانية تضع رجل الدين أمام القانون كأي مواطن عادي كأنّ من مصلحة قوى النظام الطائفي الابقاء على الضياع والإلتباس في هذه المسألة لتبقى محاكمات رجال الدين مجالاً لتثبيت النفوذ واستغلاله والدخول في مجال البازار السياسي والتسويات على حساب العدالة والقانون.
هذا المعيار المزدوج يكشف هشاشة العقل السياسي في لبنان واستحالة بناء منظومة معايير موحدة لدى المعنيين في الشأن العام، فهم مع الشيء وضده ، مع القضاء اذا نال من خثصم، وضده اذا اقترب من حليف، مع الحصانة اذا حمت ابن العشيرة ولو من خارج القانون، وضد الحصانة اذا وفرت الحماية في قضية ذات صبغة طائفية لمن هو خارج الطائفة، ولو كانت الحصانة بنص قانوني، مع تطبيق القانون حسب القضية، فالملاحقة بقضايا الفساد غير جائزة عندما تكون اساسا لملاحقة مسؤؤول كبير في الدولة او نائب او وزير عند البعض، والملاحقة بجرم التعامل كلها مرفوضة من الأصل عند البعض الآخر، والملاحقة تصبح جريمة عندما تجتمع في رفضها طبيعة القضية كجرم التعامل ، مع اللعب بالعصبيات الطائفية مع المحسوبية.
بالتأكيد ليست كل الاتهامات التي يحقق فيها القضاء صحيحة ، ولا كل الأحكام التي تصدر عنه عادلة او منصفة، ولكن هل من طريق آخر للوصول الى اعلى نسبة ممكنة من الحقيقة وأعلى مرتبة متاحة للعدالة، بغير طريق الأمتثال للقانون، بحصاناته، وآليات المساءلة القضائية التي ينص عليها؟
يقول المطران الحاج: “الله بيشهد أنا أخدم الكل. أحمل الأمانات وأوصلها”. ويختم بآية: “طوبى لكم إذا اضطهدوكم وأنتم فاعلو خير”.
ولكن هل علينا دائما ان نصدق الخطابات التي تقول ان الحل في لبنان هو بدولة القانون والمؤسسات؟