تسود انطباعات متناقضة مسار المفاوضات حول الحدود البحرية. ففي لحظات، ترتفع أسهم اتفاق الترسيم وتَقاسم موارد النفط والغاز قبل نهاية العهد، وفي لحظات أخرى يسود التأزّم، وتلوح احتمالات المواجهة العسكرية.
يطالعنا منذ اكثر من شهرين وفي نهاية كل اسبوع تقريباً بيان صادر عن الهيئة الإدارية لرابطة موظفي الادارة العامة، يدعون فيه الموظفين إلى الاعتصام والاستمرار في الاضراب المفتوح، ويدعو جميع روابط القطاع العام وشرائحه للمشاركة.
توحي مواقف العديد من أركان السلطة بأنّ حظوظ الاتفاق حول الترسيم لم تتضاءل، على رغم مظاهر التعثر والتوتر. وفي القراءة السياسية، يعني ذلك أن لبنان يتمسّك برؤيته للحل ويحرص على عدم إضاعة أي من حقوقه في مياه المتوسط، لكنه يرغب في التوصل إلى اتفاق يتيح له البدء في استثمار ثرواته الطبيعية. ولذلك، إن تلويح الجانب اللبناني بأوراق الضغط من سياسية وعسكرية هدفه ضبط قواعد اللعبة وليس تعطيلها. فلا أحد يحبّذ الدخول في حرب حالياً، فيما العالم يبحث عن مخارج للحرب المندلعة في أوكرانيا.
من جهة أخرى، إن حجم المخزونات النفطية والغازية في منطقة الحدود البحرية تقدّر أثمانه بآلاف المليارات من الدولارات على الجانبين. وهذا الحجم الهائل يدفع الجميع إلى التأني في تقديم أي تنازل، لأن كلفته كبيرة.
طبعاً، يضغط الأميركيون لإنجاح التسوية على ضفاف المياه المتوسطية الدافئة، في أسرع ما يمكن وقبل الخريف، ضمن خطتهم الهادفة إلى تنويع مصادر الطاقة في اتجاه أوروبا، تعويضاً للشح المنتظر في تدفقات الغاز الروسي على أبواب الصقيع الأوروبي. وهذا هدف أساسي من زيارة الرئيس جو بايدن للمنطقة. ولذلك، هم يتحدثون عن استئناف وساطتهم قريباً مع عودة عاموس هوكشتاين.
وفي بيروت، يحرص أركان الحكم جميعاً على إبداء المرونة في التفاوض مقابل عدم التنازل عن سقف معين للحقوق. وتوحي أوساطهم جميعاً بأن الخرق ممكن في هذا الملف. ويبدو الرئيس ميشال عون مستعجلا التسوية كإنجاز سياسي واقتصادي قبل انتهاء العهد. وإذ يعتبر الرسائل التي وجّهها «حزب الله» إلى إسرائيل جزءا من عناصر القوة اللبنانية في هذا الملف، فإنه بذلك يضعها في سياق تحصين عملية التفاوض لا جزءا من محاولة نسفها.
وفي الواقع، لا يبدو أي طرف راغباً في تحويل البقعة الحدودية برا وبحرا إلى بؤرة تفجير عسكري، لا من الجهة اللبنانية ولا من الجهة الإسرائيلية. ولا مصلحة لأي قوة إقليمية، وتحديدا إسرائيل وإيران، في تكرار نموذج تموز ٢٠٠٦ على الساحة اللبنانية، لأسباب عديدة.
فصحيح أن إسرائيل استطاعت تدمير جزء من البنية التحتية اللبنانية آنذاك، وبشكل موجع، إلا أن المواجهة مع «حزب الله» تحديدا لم تحقق أهدافها. واليوم، يجزم «الحزب» أن قدراته، الصاروخية خصوصاً، قد تنامت أضعافا. وإذا اندلعت الحرب هذه المرة، فستتمكن إسرائيل من تكرار سيناريو التدمير للبنى التحتية اللبنانية، ولكن في المقابل هي لن تكون مستعدة لتحمّل الرد، وبكثافة نيران لم تعرفها في ٢٠٠٦، وهذا ما أكده مسؤولو «حزب الله» مراراً.
الإسرائيليون يعتبرون أنها فرصتهم اليوم للاستفادة من الضغط الأميركي المباشر، وزيارة بايدن للشرق الأوسط، وحاجة الغرب إلى مصادر بديلة للطاقة من أجل مواجهة روسيا. وفي أي حال، حدّد الإسرائيليون موعد البدء في استخراج الغاز من «كاريش» في غضون شهرين. وهذا ما يفسر رغبتهم في الاستعجال. والأميركيون يجارونهم في ذلك.
وعلى الأرجح، يراهن الأميركيون أيضا على خرقٍ قريب في ملف المفاوضات مع إيران. ومن شأن ذلك أن يسهل التسويات في العديد من المسائل الإقليمية، ومنها ملف الترسيم والغاز في لبنان.
في الموازاة، هناك استعجال لدى أركان الحكم في لبنان لبدء الاستفادة من مخزونات الغاز والنفط، ما يتيح مواجهة الانهيار الذي يعجزون عن ضبطه، خصوصا في ظل التحسّب لدخول لبنان مأزق الشغور وتصريف الأعمال رئاسيا وحكوميا، ولفترة غير محددة.
وسط هذه التقاطعات، يمكن الاعتقاد أن مسار التفاوض للتوصّل إلى اتفاق ترسيم سيستمر في الأشهر الثلاثة المقبلة، بل إنه سيشهد تزخيما كبيرا بسبب الاستنفار الأميركي لتحقيق خرق. وثمة رهان على أن القوى الفاعلة، الدولية والإقليمية، لن تسمح بالانجرار إلى وضعية الحرب في المنطقة الحدودية، لأن أحدا لا يستطيع تقدير مداها وتحمل تداعياتها.
ولكن، سيكون خطأ كبيرا أن يحاول الإسرائيليون فرض إيقاعهم السريع على الجميع، لأن قواعد اللعبة لا تتحمل صدمة من هذا النوع. وعلى الأرجح، سيضطر الجانب اللبناني إلى استخدام أوراقه كلها في هذه الحال، بما فيها تكثيف الرسائل العسكرية التي يجري توجيهها اليوم.
في هذه الحال، سيفرض لبنان مستوى معيناً من السخونة الأمنية يمنع إسرائيل من المباشرة في استثمار حقول الغاز قبل أن يبدأ هو أيضا بالاستثمار. وهذا المستوى من السخونة لا يصل إلى حد الدخول في حرب شاملة.
ولذلك، انّ احتمال التوصل إلى اتفاق على الحدود والتقاسم ممكن في الأسابيع المقبلة. ولكن إذا بقيت المفاوضات متعثرة، فلا خوف من انجراف الجميع في أتون الحرب الشاملة، ما داموا يخشون عواقبها.
وسيكون البديل من الحرب اعتماد لغة الرسائل الأمنية والسياسية، على غرار ما يحصل اليوم. ففي هذه الحال، تصبح المنطقة الحدودية كلها في وضعية التوتر، وما من شركة أجنبية تُغامر باستخراج الغاز في فضاء قابل للاشتعال.
المصدر:”الجمهورية – طوني عيسى”
**