عادت الطوابير بحلّة جديدة هذا العام؛ فبعدما شهد الصيف الماضي طوابير الذلّ على محطات المحروقات، عجّت الأفران بطالبي ربطة الخبز هذه المرّة. وبالرغم من تصريحات المعنيين وإصرارهم السابق على عدم وجود أي مشكلة، تغيب ربطة الخبز عن رفوف الأفران والمحال التجارية، بينما تتوفّر الحلويات والمعجنات وبكثرة، بمعنى أنّ الأزمة هي أزمة رغيف لا أزمة طحين.
يؤكّد الباحث الاقتصادي والقانوني في المعهد اللبناني لدراسات السوق كارابيد فكراجيان، انّ «سبب فقدان الخبز من الأسواق يعود إلى تحديد سعر الربطة من قِبل وزارة الاقتصاد إلى ما دون كلفة القمح، وبالتالي لن تنتج الأفران أي ربطة لتبيعها بخسارة. ولتغطية خسائر الأفران، اعتمدت الحكومة آلية دعم ترتكز على تأمين الدولار لاستيراد القمح على سعر صرف مدعوم. إلّا أنّ دعم القمح يجعل سعره أقل من السعر الحقيقي، ما يحفّز التهريب أو استخدام الطحين الناتج منه لأغراض أخرى مثل الحلويات والمعجنات وأصناف الخبز غير الخاضعة لتحديد السعر بهدف زيادة الأرباح».
وأوضح، أنّ «سبب ارتفاع سعر ربطة الخبز يعود إلى عاملَين، الأول والأكبر هو التضخم الذي يشهده لبنان، بحيث زادت الكتلة النقدية من 11,000 مليار ليرة تقريباً قبل الأزمة إلى حوالى 37,000 مليار ليرة حالياً. وقد أدّت زيادة المعروض بالليرة إلى انهيار قدرة العملة الشرائية، ما أسفر عن ارتفاع كلفة ربطة الخبز، شأنها شأن كافة السلع الأخرى. أمّا السبب الثاني، فهو ارتفاع سعر القمح عالمياً، وهو أمر خارج عن سيطرة الحكومة اللبنانية».
ويرى فكراجيان أنّ «ارتفاع كميات القمح المستورد قد ينمّ عن تبدّل النظام الغذائي للمواطن وزيادة في استهلاك الخبز بسبب ارتفاع أسعار باقي السلع، كما يمكن أن يكون نتيجةً لتهريب هذه الكميات. وفي كلتا الحالتين، يشكّل العدم مأزقاً، فالتهريب يهدر أموال المودعين لصالح المحظيين، بينما يعني لجوء المواطن إلى زيادة استهلاك الخبز بكميات أكبر، أنّ الأزمة تحرم المواطنين من الطعام».
وشدّد على ضرورة «الترفّع عن الشعبوية وإلغاء سياسة تحديد سعر ربطة الخبز ورفع الدعم عنه كلياً، كي يعود ويتوافر في الأسواق». وتابع: «يسمح إلغاء التسعيرة الرسمية بتنافس الأفران في ما بينها على نوعية ربطة الخبز وسعرها، بينما تمنع المنافسة أيّاً من الأفران من التحكّم في السعر. ففي حال رفع أحد الأفران هامش الربح، يعاقبه المواطن عبر شراء الخبز وسائر المخبوزات من فرن آخر».
ويرى فكراجيان أنّ «الحل الأنسب يكمن في إصلاح أساس المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني، وأولها الأزمة النقدية، عبر إنشاء مجلس نقد (currency board) أو عبر الدولرة الشاملة، وهما الحلان الوحيدان لمشكلة التضخم. أمّا في حال إصرار الحكومة على الدعم، فمن الأجدى التركيز على دعم المواطن بدلاً من دعم المستوردين».
ويبقى المواطن اللبناني الثابت الوحيد في معادلة الطوابير، فالسلعة المفقودة تتغيّر والأضرار كذلك، لكن الخاسر هو اللبناني، وهو أيضاً المنتظر في طوابير الذلّ؛ بينما يجتهد المعنيون في ابتكار سبل للوم من هبّ ودبّ بدلاً من تحمّل المسؤولية والعمل على إخراج البلاد من النفق المظلم.
**