قد تكون الإنتخابات النيابية التي جرت الأحد الفائت في 15 أيّار الجاري في لبنان، وانبثق عنها مجلس نيابي جديد تبدأ ولايته في 21 منه قد غيّرت المشهد العام بعض الشيء، ما أدّى الى فتح صفحة جديدة من تاريخه، غير أنّ التغيير الحقيقي الذي كان منتظراً منها لم يحدث.
وأثّر غياب رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري وتيّاره الأزرق عن الساحة السياسية والإنتخابية سلباً على نسبة الإقبال على الإقتراع من قبل اللبنانيين عموماً، والسنّة خصوصاً، وإن لم يُقاطعوها بشكل كلّي. واستفادت بعض الأحزاب والقوى السياسية والتغييرية من هذا الغياب، لا سيما منها المسيحية والسنيّة، فتقاسمت مقاعد «تيّار المستقبل» فيما بينها، من دون أن تتمكّن «الشخصيات السنيّة» من استيلاد «مرجعية سنيّة» تحلّ محلّ الحريري… وإذ حافظ الثنائي الشيعي على موقعه، تكاثرت القوى المسيحية في المجلس النيابي الجديد، كما الكتل السنيّة الصغيرة، وأحرز حزب «القوّات اللبنانية» تقدّماً بعدد من المقاعد، فيما تراجع «التيّار الوطني الحرّ» ببعض المقاعد، على ما كان متوقّعاً… الأمر الذي طرح التساؤلات عن مصير الأكثرية التي كانت سائدة، وإذا ما تمكّنت الإنتخابات الأخيرة من استبدالها بأكثرية معارضة؟!
أمّا الذين صوّتوا، فأعطوا الأحزاب التقليدية أصواتهم بنسبة كبيرة، على ما أضافت، سيما وأنّ قادة هذه الأخيرة قد شدّوا العصب الطائفي عشية الإنتخابات، ونجحوا في تشجيع مناصريهم على إعطائهم أصواتهم في صناديق الإقتراع. فيما اتجه قسم قليل من الناخبين الى الإقتراع لمرشّحي «التغيير» الذين تبيّن أنّ بعضهم ورغم إعلانه عن أنّه «مستقلّ»، ينتمي الى أحد الأحزاب المسيحية. واللافت في هذه الإنتخابات أنّ الذين انتخبوا قد تمكّنوا من إسقاط نائب رئيس مجلس النوّاب إيلي الفرزلي، فيما أُصيب الجبل بنكسة إثر خسارة رئيس الحزب اللبناني الديموقراطي المير طلال إرسلان، ورئيس حزب التوحيد وئام وهّاب، والقومي أسعد حردان، فضلاً عن النائبين زياد أسود وابراهيم عازار، والنائب السابق أمل أبو زيد في جزّين، لأنّ تحالف «التيّار الوطني الحرّ» و «حركة أمل» في هذه الدائرة، لم يؤدّ الى انضمامهم في لائحة واحدة، ما جعل الطرف الثالث يستفيد من هذه الثغرة.
وأشارت المصادر نفسها أنّ أصوات ناخبي «التيّار الأزرق» قد تشتّت في دوائر بيروت الثانية وطرابلس وصيدا، وتوزّعت على شخصيات سنيّة عدّة، لا تشكّل أي منها «مرجعية سياسية»، وقد استفاد من هذا الأمر المرشحين أسامة سعد وَعَبد الرحمن البزري فحقّقا الفوز بعد أن كان صعباً عليهما في ظلّ وجود مرشحي الحريري. فيما استفادت «القوّات اللبنانية» من بعض الأصوات السنيّة في عدد من الدوائر، لا سيما في جزّين وزحلة وطرابلس، ما جعلها تربح عدداً إضافياً من المقاعد النيابية، فيما خسرت مقعداً مارونياً في عرينها بشرّي لصالح المرشح وليم (ملحم) طوق نجل النائب السابق جبران طوق. أمّا «التيّار الوطني الحرّ» فخسر بعض مقاعده النيابية. وما تسبّب بتراجعه هو انسحاب عدد من النوّاب المتحالفين معه في وقت سابق من «تكتّل لبنان القوي» مثل نعمة افرام وميشال معوّض وميشال ضاهر، وقد تمكّن هؤلاء النوّاب المستقيلين من تحقيق الفوز خلال الإنتخابات الأخيرة، كلّ في دائرته. أمّا رئيس «التيّار» النائب جبران باسيل فقد حافظ على مقعده في البترون رغم تحالف قوى مسيحية عدّة من أجل هدف واحد هو «إسقاط باسيل». فيما عزّز حزب «الكتائب اللبنانية» حضوره على الساحة بـ 4 مقاعد نيابية فقط، وبقي «تيّار المردة» على موقعه، محقّقاً فوز طوق في بشرّي على مرشح «القوّات اللبنانية» جوزف إسحاق. أمّا في دائرة جبيل- كسروان والمتن، فقد كثُرت القوى السياسية المسيحية من خلال عودة بعض الوجوه الى الواجهة، مثل الوزيرين السابقين ملحم رياشي، وسليم الصايغ، والنائب المستقيل نعمة افرام، مقابل خسارة النائب إدي معلوف، والنائب المستقيل شامل روكز ومنصور البون.
وإذ فتحت الإنتخابات النيابية الأخيرة صفحة جديدة من تاريخ مجلس النوّاب وسط تكاثر الكتل وتشعّبها، فهل هذا يعني أنّ لبنان يسير نحو الإنقاذ والخروج من أزمته الاقتصادية والمالية قريباً، تجيب المصادر عينها بأن تعدّد الكتل النيابية من شأنه تعقيد ولادة الحكومة الجديدة لأنّ الإتفاق لن يكون سهلاً فيما بينها، لا على نوع الحكومة ولا أمام الاستحقاق الرئاسي المرتقب في أواخر تشرين الأول من العام الحالي. فيما الإنقاذ هو من مهام الحكومة الجديدة والمجلس الجديد.
وكشفت بأنّ فرنسا اتفقت مع بعض القوى في الداخل على ضرورة بقاء رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي على رأس الحكومة الجديدة بهدف استكمال عملية الإنقاذ التي بدأها قبل الانتخابات، وكاد يتوصَّل الى عقد إتفاقية مع صندوق النقد الدولي. غير أن أحداً لا يعلم ما سيكون عليه موقف الكتل النيابية الجديدة من هذا الأمر، كما من نوع الحكومة التي قد لا يريدها البعض «حكومة وحدة وطنية»، بل حكومة يرأسها شخص مستقلّ وتضمّ وزراء تكنوقراط مستقلّين قد لا يمثلون القوى السياسية بالضرورة.
من هنا، تجد المصادر ذاتها أنّ «الأكثرية الوازِنة»، رغم وجود أحزاب وقوى رابحة وأخرى خاسرة في البرلمان الجديد، ستُحدّدها التحالفات النيابية المقبلة بعد أن يستهلّ المجلس مهامه في 21 أيار الجاري.. أمّا كثرة الكتل السنيّة الصغيرة، وكذلك المسيحية، والكتلة التغييرية المعارضة، الى جانب الكتل التقليدية، فهو أمر لا يدلّ على واقع سليم، بل من شأنه تعقيد الأمور، وقد ينعكس سلباً على قدرة هذه القوى على التوافق على أمور عدّة وأولّها على تشكيل حكومة جديدة سريعاً، كما على إسم رئيس الجمهورية المقبل. وفي حال تعطّل أو عرقلة هذين الإستحقاقين بسبب الخلافات السياسية، فإنّ جميع القوى والأحزاب والكتل السياسية والقوى التغييرية ستُطالب عندها بتغيير النظام كونها باتت متفقة على أن النظام الحالي عقيم، ولا يُمكن استمرار البلاد في ظلّه. وهذا الأمر يعيد الى الأذهان ما طرحه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته الثانية الى لبنان في حضور جميع القوى السياسية في قصر الصنوبر بأنّ لبنان بحاجة الى «عقد جديد». فهل حان وقت هذا العقد السياسي الجديد، وهل ستتوافق الكتل النيابية الجديدة على ضرورة السعي لوضع أسسه من أجل لبنان أفضل لجميع أبنائه من دون تفرقة أو تمييز على أساس ديني أو مذهبي أو طائفي ؟!
المصدر: الديار -دوللي بشعلاني
**