كتبت صحيفة “الديار” لطالما شكّلت الصراعات العسكرية عاملاً رئيسياً لانعدام الأمن الغذائي. من هذا المنطلق، التداعيات الكبرى للصراع الروسي-الأوكراني تبقى على الصعيد الإقتصادي حيث من المتوقّع أن يتأثر الإقتصاد العالمي بأكمله نتيجة هذه الأزمة. هذه التداعيات تنتقل من خلال ثلاث قنوات رئيسية:
أولًا – الإنكشاف التجاري المباشر، بحكم أن الصراع المسلّح والعقوبات يضرب سوق التصدير (نتيجة الصراع العسكري) والإستيراد (نتيجة التأثير في سلاسل التوريد أو العقوبات) وهو ما قد يؤدّي إلى حدوث إختناقات في نقص العرض والإنتاج (عادة ما تُقاس نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي الإسمي).
ثانيًا – الإعتماد الصافي على الطاقة في الماكينة الإقتصادية، حيث أنه كلما زادت نسبة الإعتماد على إستيراد النفط إرتفعت الفاتورة، وهو ما يُشكّل كارثة على النمو الإقتصادي نظرًا إلى التضخّم الضمّني الذي يخلقه إرتفاع أسعار النفط. هذا الأمر لا يصحّ بالطبع للإقتصادات التي تُصدّر الطاقة حيث ان ارتفاع أسعار النفط يشكّل صدمة إيجابية لهذه الإقتصادات.
ثالثًا – وزن الطاقة والغذاء في مؤشر الأسعار على الإستهلاك: فارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية يؤدّي حكمًا إلى تآكل القدرة الشرائية للمستهلك. وهنا يجدر الذكر أن كِلا طرفيْ الصراع (روسيا وأوكرانيا) يحتلان مرتبة عالية في لائحة الدول المصدرة للحبوب والنفط.
وقبل الحديث عن تفاصيل هذه التداعيات، ينبغي التذكير أن الحقول الأوكرانية الرئيسية التي يتمّ إنتاج المحاصيل منها موجودة في مناطق الصراع حاليًا على الحدود مع روسيا وبيلاروسيا. أضف إلى ذلك أن موانئ “كييف” تمّ إغلاقها بالكامل وهناك حظر لمرور السفن التجارية في بحر آزوف (شرق شبه جزيرة القرم) والمُتصل بالبحر الأسود. ويعد البحر الأسود من أهم مناطق العالم للتجارة وبالتحديد للصادرات الزراعية والحبوب حيث يمرّ عبره 12% من إجمالي تجارة الحبوب العالمية باتجاه دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المجاورة. وتأتي أوكرانيا في المركز الأول مع تصدير أكثر من 95% من إنتاجها الزراعي. وبالتالي، فإن الحصار المفروض على البحر الأسود سيحدّ من تصدير المنتجات الزراعية لبلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وهو ما سيؤدّي حكمًا إلى أزمة غذاء في هذه الدول.
تُعد روسيا وأوكرانيا من بين أكبر 5 دول عالميًا في تصدير القمح ودوار الشمس والذرة والبذور الزيتية والزيوت. وتُشكّل أوكرانيا وحدها ما يُقارب الـ 16% (أكثر من 40 مليون طنّ) من صادرات الذرة عالميًا و12% من صادرات القمح عالميًا. وهو ما يعني أن بلدانًا (الترتيب بحسب حجم الإستيراد) مثل الصين، هولندا، مصر، إسبانيا، تركيا، إيران، كوريا، إسرائيل، الجزائر، البرتغال، إيطاليا، بريطانيا، تونس، بلجيكا، ليبيا، إيرلندا، ألمانيا، لبنان، المغرب، ستتأثر بشكلٍ كبير.
أيضًا تُلبّي أوكرانيا وروسيا أكثر من 50% من إستهلاك الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من زيت عباد الشمس. وبالتالي فإن العراق، ومصر، والإمارات، والمملكة العربية السعودية، وتركيا، ولبنان، والسودان ستتعرّض لنقص كبير في أسواقها، كما ودولًا بعيدة كالصين، وهولندا، وإسبانيا، ، وإيطاليا، وفرنسا، وبولندا، وبريطانيا، وماليزيا، والولايات المُتحدة الأميركية…
أمّا على صعيد القمح، فالتأثير في كلٍ من مصر، وإندونيسيا، وبنغلادش، وباكستان، وتركيا، والمغرب، واليمن، ولبنان، والفليبين، وليبيا، وتايلندا، وماليزيا، وإسبانيا، وكوريا… سيكون له تداعيات كبيرة ومؤذية لشعوب هذه البلدان.
عمليًا الدول الفقيرة هي المُتضرّر الأول من تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية، فعلى صعيد الشرق الأوسط تأتي اليمن، ولبنان، وليبيا، وتونس، ومصر، والأردن، وسوريا… على رأس الدول الأكثر تضررًا. ويستورد لبنان 50% من قمحه من أوكرانيا (و12% من روسيا)، وليبيا تستورد 43% من إستهلاكها من أوكرانيا، واليمن يستورد 22% من أوكرانيا، ومصر أكثر من 86% من روسيا وأوكرانيا، وتركيا أكثر من 75% من إستهلاكها.
أما على الصعيد الأسيوي، فإن الدول الأكثر تأثرًا بحسب وزن الطاقة والمواد الغذائية في مؤشر الأسعار، هي: تايلندا، والهند، والفيليبين، وفيتنام، وماليزيا، وإندونيسيا، واليابان، وتايوان، وسنغافورا، والصين، وأستراليا، وكوريا الجنوبية.
ولكن الأخطر في كل ما ذكر هو على صعيد الأسمدة النيتروجينية مثل الأمونيا واليوريا حيث أن روسيا وبيلاروسيا تستحوذان على أكثر من 32% من سوق الأسمدة العالمي، وبالتالي فإن العقوبات والإجراءات الإنتقامية ستحد من توريد هذه الأسمدة، مما يعني انخفاض المحاصيل وارتفاع أسعار الحبوب.
أيضًا من بين التداعيات المُتوقّعة لهذه الأزمة الهروب المُمنهج لرؤوس الأموال من الإقتصادات المتوسطة والفقيرة والتي تجد ملاذًا لها في الذهب والمعادن الثمينة على حساب أسواق الأسهم والإستثمارات المباشرة في هذه البلدان. وهو ما يقترح رفع الفائدة في العديد من هذه الدول، وبالتالي تراجع النمو الإقتصادي إذا ما وُجد.
كل هذه التعقيدات تقترح إعادة النظر في نظام التعامل (ببعديه التجاري والإستثماري) بين الدول مع ما لهذا من تداعيات على الإستيراد والتصدير، ولكن أيضًا على وسائل الدفع وحركة رؤوس الأموال.
**