رفض صندوق النقد الدولي الخطة المقدّمة من الحكومة اللبنانية والتي تنصّ على تحميل خسائر المصارف للمودعين. وقد صرّحت المديرة العامة كريستالينا غورغييفا، أنّ الصندوق سيدعم حصراً برنامجاً إصلاحياً شاملاً وشفافاً. ولعلّ هذه هي الصفعة الثانية التي يوجّهها الصندوق إلى الحكومة الحالية، بعد رفضه خطة القيود على حركة رأس المال (Capital Control) التي كان قد ناصرها بشدّة أبرز مستشاري الرئيس ميقاتي. ولعلّ المستشار نفسه هو من ورّط الحكومة بطرح «تليير» الودائع الذي كان قد رفضه الصندوق رفضاً قاطعاً في أيام حكومة حسان دياب بسبب أثره التضخمي، فأعادت الحكومة الحالية طرحه لتبلى بالرفض المؤكّد.
أولاً: فشل مشروع موازنة العام 2022 في تحقيق توازن مالي، وأفضى إلى عجز يبلغ حوالى 7 تريليون ليرة قبل احتساب سلفة الكهرباء، وذلك رغم الزيادات الهائلة للرسوم والتعريفات والضرائب، ورغم الاستمرار في التخلّف عن سداد سندات اليوروبوند. ويعود هذا العجز إلى زيادة في نفقات الدولة على الموظفين واعتماد سياسة دعم المحروقات. وقد خلت الموازنة من أي رؤية إصلاحية لإعادة هيكلة القطاع العام، ولم تتطرق إلى سبل مكافحة التهرّب الضريبي والجمركي، واكتفت بزيادة الأعباء على القلة التي ما زالت تدفع. ونظراً لعدم قدرة الحكومة على الاستدانة من الأسواق المالية، فسيتمّ تمويل هذا العجز من خلال زيادة حجم العرض النقدي (Money Supply – M1)، بمعنى أنّ ما سيُعطى للموظفين بيد سيؤخذ منهم ومن بقية الشعب اللبناني باليد الأخرى عن طريق خسارة الليرة لقيمتها.
ثانياً: تفرض خطة الحكومة لـ»تليير» الخسائر هيركات (Haircut) مفتوحاً على الودائع يتغيّر مع تغيير سعر صرف الليرة. فعلى سعر صرف 30,000 ليرة للدولار، يبلغ الهيركات 83% على الفوائد المتراكمة منذ العام 2015 و60% على الودائع التي تمّ تحويلها إلى دولار بعد تشرين الأول 2019 و33% على شرائح الودائع التي تفوق 150,000 دولار. وإذا وصل سعر الصرف إلى 50,000 ليرة، تفرض الخطة هيركات 90% على الفوائد و76% على الودائع التي تمّ تحويلها إلى دولار و60% على شرائح الودائع التي تفوق 150,000 دولار. وفي جميع الأحوال، تشطب الخطة شريحة الودائع التي تفوق 500,000 دولار وتحوّلها إلى أسهم وسندات. ولعلّ تخفيض سعر الصرف إلى حدود 20,000 ليرة للدولار يهدف إلى الإيحاء بهيركات أصغر، إلّا أنّ «تليير» الودائع يؤدي في الحقيقة إلى زيادة العرض النقدي (M1) بأكثر من عشرة أضعاف، ما يعني خسارة إضافية هائلة لقيمة الليرة، وهذا ما رفضه صندوق النقد.
رابعاً: ألحق احتكار الدولة لقطاع الكهرباء والانقطاع المتواصل الناتج منه ضرراً كبيراً بالقطاعين الصناعي والزراعي، اللذين يعتمدان بشكل كبير على الطاقة. وتتحمّل خسائر الكهرباء جزءاً من مسؤولية الانهيار المالي الحالي بسبب اعتمادها المتواصل على الموازنة العامة واستنزافها لدولارات المصرف المركزي. كما أدّى احتكار الدولة للاتصالات إلى غلاء التعرفة (قبل الأزمة) وبطء الخدمة، ما منع نشوء قطاع تكنولوجيا في لبنان. وقد حرم احتكار النقل الجوي وارتفاع أسعار تذاكر السفر الناتج منه من أعداد كبيرة من السياح فضّلت السفر إلى وجهات منافسة مثل تركيا ومصر وقبرص واليونان. من هنا، لن تكون سياسة رفع التعرفة في هذه القطاعات كافية ما لم تترافق مع تفكيك الاحتكارات وفتح السوق بحرّية تامة أمام شركات خاصة تستثمر في القطاع دون استنزاف الموارد العامة وتنافس كهرباء لبنان و»أوجيرو» و»طيران الشرق الأوسط».
ويدفع بعض مستشاري الحكومة باتجاه سيناريو انهيار يشبه ما حصل في زيمبابوي وفنزويلا، عبر الإصرار على تخليص المصارف من التزاماتها تجاه المودعين قبل إجراء أي إصلاح آخر. فهم تارة يسوّقون للقيود على حركة رأس المال وطوراً للهيركات الشرس عن طريق الـ»تليير». ويستخدم هؤلاء في سبيل ذلك شعارات رنانة مثل «مرونة سعر الصرف» التي تعني تكبيد اللبنانيين والقطاعات المنتجة ثمن الأزمة، عن طريق المزيد من انهيار الليرة. ولكن محاولة إنقاذ المصارف على حساب الاقتصاد ستفضي لا محالة إلى الإطاحة بالاثنين معاً، وهو ما يفهمه الصندوق ويعيه تمام الوعي.
المصدر:”الجمهورية-دكتور باتريك مارديني”
**