مما لا شك فيه أن تاريخ لبنان السياسي سيؤرخ خطوة مفصلية لسعد الحريري، وهو مَن قال إنه، وإن لم يشارك في الانتخابات النيابية، فلن يبتعد عن العمل السياسي. فالتيار “الأزرق” يمر بأسوأ مراحله، وأداؤه الحكومي أو البرلماني السابق كان “مخزياً” إلى حد بعيد في بعض انعطافاته، والناس كرهت الأزمات وكل المرجعيات السياسية والوزراء والنواب المحسوبين على التأزيم، لذلك فهي أكثر تهيؤًا اليوم للاستماع إلى صوت العقل الهادئ الواعد بتقديم شيء حقيقي.
إعلان رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري عدم ترشحه للانتخابات القادمة هو موقف لافت للنظر بحق…
نقول هذا لأن الرجل ليس ممَن كانوا على شفير الخسارة في انتخابات 2018 وباتوا يخشون على أنفسهم اليوم، بل هو الذي نجح بترؤس كتلة نيابية كبيرة جداً، وليس كذلك، في ظني، ممن يتّخذون مثل هذه القرارات المصيرية التي ستترك تداعيات واضحة على مستقبله السياسي في ظل ما يعانيه من خسارة في ثروته الشخصية والتي جعلته من الأشخاص الذين يتهيبون من فكرة الصرف على الحملة الانتخابية، فملاءة الرجل المالية قليلة جداً ومعروفة للجميع، بعد انقطاع التمويل السعودي عنه الذي جعله يعاني إلى حد كبير كل أشكال الإرهاق السياسي والخدماتي على حد سواء.
سعد الحريري، وبحسب ما أعلن، لم يعد يرى نفسه قادراً على الاستمرار في المشاركة في هذه اللعبة السياسية، أو لنقل غير السياسية لأن ما يجرى في حقيقة الأمر بعيد كل البعد عن السياسة الجادة التي تحوّلت مع منظومة الفساد ومن بينها الحريري إلى فوضى هزلية مؤلمة!
سمعت أكثر من شخص يقول إن الحريري قد أخطأ في قراره هذا، وأنه كان من السياسيين الجادين متميزي الطرح في مقابل تفاهة وركاكة كثيرة كان يعبق بها جو الحياة السياسية، ولعلهم مصيبون في ذلك، لكنني أؤمن في الوقت نفسه بأن المشاركة السياسية الفاعلة لإنقاذ واقعنا السياسي المترنح ليس من الضروري أن تكون من تحت قبة البرلمان فحسب، بل لعلها قد صارت اليوم، بعدما ضاعت البوصلة البرلمانية وتاه الطريق، أكثر فاعلية من خارج البرلمان عبر الحراك الشعبي المنظم الفعال من خلال مؤسسات المجتمع المدني ومن خارجها، وفي الفترة السابقة ما كان لأي مسؤول جاد، سواء الحريري أو غيره أن يقدم شيئاً يذكر يرضيه عن نفسه ويقنعه بالاستمرار.
وفي المقابل، قد يقول قائل من خصوم الحريري، بأنه لم تبكِ عليه البواكي حين رحل، وهي وجهة نظر طبيعية من الخصوم خصوصاً في زمن الانقسام السياسي الحاد في لبنان، ولكنني أعلم أن كثيراً من الناس قد تألموا لخروج الحريري من الدائرة السياسية، لكن عزاءهم أنه قد خرج بإرادته وهو مدرك تماماً لما يفعل وقبل أن يدفع المقابل الباهظ المستحق لذلك، دون أن يكون مهدداً بنتائج الانتخابات أو مضغوطاً عليه من قبل جهات إقليمية او دولية كحال آخرين.
يمكن القول إن الحريرية السياسية انتهت فصولها بأن تلقى سعد الحريري صفعة موجعة ولكن المسألة لم تعد مسألة انتخابات وخسارة زعامة وتثبيت فوز وإنما مسألة أي لبنان يتسلمه اللبنانيين بعدما نجح الحريري وشركاؤه في السلطة من كل الطوائف والمذاهب في إحداث تحولات عميقة لا تنتهي بسهولة وسرعة، ولم يسبق أن شهد تاريخ لبنان رؤساء ومسؤولين مثيرين للجدل ومحطمين للتقاليد والأعراف الراسخة مثل “جماعة الطائف” التي بدلت كثيراً في ملامح الحياة السياسية، وأثارت الجدل والخلاف والانقسام في الحياة السياسية، وعمقت انقسامات طائفية ومذهبية في المجتمع اللبناني، وقوضت الإيمان بالقيم والأعراف والتقاليد السابقة.
لبنان بعد الحريري سيتغير والحياة السياسية أيضاً، الفرصة سانحة الساعة لظهور قيادات وطنية طليعية تقدم للناس الأمل وتقود الساحة نحو لبنان الغد، قيادات تكون لكل اللبنانيين حقا، بكل فئاتهم وطوائفهم بلا استثناء، قيادات تقوم أولاً على طاقات الشباب وعنفوانهم، وثانياً على حكمة السابقين وتجربتهم، قيادات باحثة عن الحياة والفرح دون تصادم مع أخلاقيات وعادات المجتمع ومشاعره الدينية، قيادات لا تخرج كرد فعل أو لمواجهة أي تيار قائم بعينه، إنما حاملة لشعلة تنموية جديدة على المستويات المختلفة.
سعد الحريري هو واحد من الأسماء الفاسدة التي تمر في مخيلتي وأظنها غير قادرة على المساهمة في صناعة شيء كهذا، ولا أدري إن كانت الأيام القادمة ستجعله خلف القضبان أم لا!