تختلف الطرق التي تعتمدها الدساتير في محاكمة الرؤساء والوزراء، فالبعض يعطي هذه الصلاحية لمجلس النواب والبعض الآخر ينيطها بالقضاء.
وهناك طريقة ثالثة اعتمدها الدستور اللبناني بعد تعديلات الطائف، وهي طريقة مختلطة حيث يتألف المجلس الأعلى المنصوص عليه في المادة 80 من الدستور “من سبعة نواب ينتخبهم مجلس النواب وثمانية من أعلى القضاة اللبنانيين رتبة حسب درجات التسلسل القضائي أو اعتبار الأقدمية إذا تساوت درجاتهم ويجتمعون تحت رئاسة أرفع هؤلاء القضاة رتبة، وتصدر قرارات التجريم من المجلس الأعلى بغالبية عشر أصوات، وتحدد أصول المحاكمات لديه بموجب قانون خاص”.
وتنص المادة 60 الخاصة بمسؤولية رئيس الجمهورية على ما يلي: “لا تبعة على رئيس الجمهورية في حال قيامه بوظيفته إلا عند خرق الدستور أو في حال الخيانة العظمى”.
لقد شهد قانون المجلس الأعلى سوابق متعددة في محاولة إقراره. كانت الأولى بموجب المرسوم الرقم 4132 في 25 آذار/مارس 1966، حيث أحيل مشروع القانون على مجلس النواب، في عهد الرئيس شارل حلو وحكومة الرئيس رشيد كرامي، إلا أنه بقي في أدراج المجلس. والثانية كانت من خلال اقتراح قانون قدمه رئيس لجنة الادارة والعدل بالإضافة إلى اقتراح النائب أنور الخطيب الذي وضعه في كتاب “المحكمة العليا في لبنان ومختلف الدول العربية والغربية” عام 1966 وصولا إلى مطلع الثمانينيات، عندما تقدّم النائب ناظم القادري باقتراح للقانون، لم يلق هو الآخر أي إستجابة(1).
وبعد ذلك، جرت محاولة من رئاسة مجلس النواب، للسير في مشروع قانون تنظيم المجلس الأعلى وأصول المحاكمات أمامه. فتشكّلت العام 1987 لجنة خاصة، برئاسة نائب رئيس المجلس المرحوم الدكتور ألبير مخيبر حينذاك، لدرس اقتراح النائب القادري، وأنهت اللجنة دراستها خلال ثلاثة أشهر وعرضتها على اللجان النيابية المشتركة، التي أضافت عليه تعديلات أساسية.
وتنفيذًا لما جاء في وثيقة الإصلاح الوطني العام 1989، قدّمت الحكومة اللبنانية مشروع قانون أصول المحاكمات لدى المجلس الأعلى، الذي صدر بالقانون الرقم 13/90، في 18 آب/أغسطس 1990، ليصبح هذا المجلس المرجع الوحيد الذي يمكن أن يحاكم الرؤساء والوزراء، على عكس النواب الذين يحاكمون في المحاكم العادية.
وفي حين إن إعطاء المجلس الأعلى، وفق ما نصّ عليه الدستور في المادتين 60 و70، صلاحية محاكمة رئيس الجمهورية لعلّتي خرق الدستور والخيانة العظمى وحتى لإرتكابه الجرائم العادية، ومحاكمة رئيس الوزراء والوزراء لإرتكابهم الخيانة العظمى أو لإخلالهم بالموجبات المترتّبة عليهم يجعله ليس محكمة سياسية فحسب وإنما أيضًا محكمة جزائية إستثنائية، إذ إن مهماته الأساسية تكمن في محاكمة رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء بالجرائم المسندة إليهم. وتتأكّد هذه الصفة الجزائية بطبيعة إجراءات الإتهام المتبعة أمام المجلس النيابي الذي أعطي صلاحية إستثنائية ألا وهي حق تحريك الدعوى العامة مكان النيابة العامة، وبطبيعة إجراءات التحقيق أمام لجنة التحقيق.
لقد شكل المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء في لبنان من ابرز المواضيع المطروحة بعد اتفاق الطائف خاصة وانه يطرح عدة نقاط قانونية على القضاء العدلي شكلت محل جدل ونقاش في الاوساط السياسية والقانونية. فهل يعتبر المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء في لبنان قضاء بما لمفهوم القضاء من معنى، أم أنه قضاء سياسي وبالتالي يخرج من مفهوم التنظيمات القضائية اللبنانية؟ ولماذا وجد هذا القضاء الخاص؟
في تكوين وآلية عمل المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء:
نصّت وثيقة الوفاق الوطني على تشكيل المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء وهو يتألف من 7 نواب و 8 قضاة ويجتمعوا تحت رئاسة ارفع القضاة بينهم، وتحدد اصاول المحاكمات بموجب قانون خاص ينظر في جرائم خرق الدستور والخيانة العظمى والإخلال بواجبات الوظيفة، وهي جرائم غير عادية .
تسمّي محكمة التمييز، بجميع غرفها، هؤلاء القضاة العدليين الثمانية بمن فيهم الرئيس، وتسمّي أيضًا ثلاثة قضاة عدليين أعضاء إحتياطيين. ويقوم بمهمة النيابة العامة لدى المجلس الأعلى، قاضٍ تسمّيه محكمة التمييز في هيئتها العامة، إضافةً إلى قاضيين معاونين له. وقد حدّدت المادة السابعة من ق.أ.م.المجلس الأعلى، المنوّه عنه أعلاه، حالات إنتهاء عضوية النائب والقاضي في هذا المجلس.
أعطي المجلس الأعلى صلاحية بتّ طلبات التنحي والرد (بالغالبية المطلقة من أعضائه وبالاقتراع السري)، وله صلاحية إعلان إستقالة أي من أعضائه، إما عفوًا أو بناءً على طلب النيابة العامة لديه. ويصدر رئيس المجلس الأعلى تعليمات خطية أو قرارات إلى المحاسب المختص في مجلس النواب لتنفيذ النفقات الخاصة بالمجلس الأعلى (م 16 من ق.أ.م. المجلس الأعلى).
وتكمن آلية عمل المجلس في قرار مجلس النواب حيث للأخير أن يتهم رئيس مجلس الوزراء والوزراء بارتكابهم الخيانة العظمى أو بإخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم، علماً أنه لا يجوز أن يصدر قرار الاتهام إلا بغالبية الثلثين من مجموع أعضاء المجلس ( 86 نائباً من 128 )، كما أن ملاحقتهم أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء دونها عقبات.
اتهام الوزراء في لبنان ومحاكمتهم:
إن البحث في مسؤولية كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء، سيقودنا إلى الحديث عن المجلس الأعلى لمحاكمتهم، المنصوص عليه في الدستور، وعن قانون أصول محاكمة رئيس الجمهورية والوزراء أمام هذا المجلس. وقد أطلق بعض الفقهاء على هذا النوع من المحاكمات تسمية القضاء السياسي. وفي هذه الحال، من الممكن أن تتخذ العقوبة شكل العقوبة السياسية، أو العقوبة الجزائية، أو العقوبة المدنية، أو شكلين إثنين، أو الأشكال الثلاثة على السواء(2).
نصّت المادة 70 من الدستور المعدّلة العام 1990، على أن لمجلس النواب أن يتّهم رئيس مجلس الوزراء والوزراء بارتكابهم الخيانة العظمى أو بإخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم، بعدما كانت تنصّ المادة ذاتها قبل التعديل، على أن لمجلس النواب أن يتّهم الوزراء فقط بارتكابهم الخيانة العظمى أو بإخلالهم بالواجبات المترتّبة عليهم. وكذلك حدّدت المادة 71 من الدستور المرجع الذي يحاكم أمامه رئيس مجلس الوزراء. والمادة 72 قرّرت وجوب كفّه عن العمل فور صدور قرار الاتهام في حقّه.
تنصّ الفقرة الثانية من المادة 66 من الدستور على أن “يتولّى الوزراء إدارة مصالح الدولة. ويناط بهم تطبيق الأنظمة والقوانين، كلّ بما يتعلّق بالأمور العائدة إلى إدارته وبما خصّت به”. وتضيف الفقرة الثالثة من المادة نفسها على أن “يتحمّل الوزراء إجمالاً تجاه مجلس النواب تبعة سياسة الحكومة العامة ويتحملّون إفرادًا تبعة أفعالهم الشخصية”.
يحاكم رئيس مجلس الوزراء أمام المجلس الأعلى بعد اتهامه من مجلس النواب بموجب قرار يصدر عن غالبية الثلثين من مجموع أعضائه، وذلك عن جريمتي الخيانة العظمى والإخلال بالواجبات المترتّبة عليه.
وأما في ما يخص الجرائم العادية التي يمكن أن يتّهم بها، فإن الأصول المطبّقة هي أصول المحاكمات الجزائية وقانون العقوبات اللبناني، على أساس مساواته مع سائر الأشخاص الخاضعين لقوانين الدولة اللبنانية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المسؤولية المدنية (3).
وإذا تتبعنا رأي العلم والاجتهاد، في خصوص الجرائم التي يقترفها الوزير، يمكن أن نخلص إلى استقرار في تقسيمها إلى فئتين، الأولى تلك المذكورة في المادة 70، أي الخيانة العظمى والإخلال بالواجبات المترتبة، وتناط فيها صلاحية الاتهام للبرلمان والمحاكمة للمجلس الأعلى ــ المنعدم الوجود. وفلسفة هذا الاختصاص متعلّقة بطبيعة هذه الأعمال وارتباطها بوظيفة الوزير السياسية، أما الفئة الثانية فهي تلك التي تندرج تحت لواء الجرائم العادية، وتالياً، تنعقد فيها صلاحية القضاء العدلي ــ أي القضاء الجزائي العادي ــ في الملاحقة والتحقيق والمحاكمة.
وهنا يطرح السؤال عن مفهوم الإخلال بالموجبات المترتّبة على الوزراء في غياب أي تحديد واضح في نصوص المجلس الأعلى لذلك تعدّدت الآراء حول هذا المفهوم، فاعتبر بعضهم، ومنهم الدكتور حسن الرفاعي، أن الواجبات المترتّبة على الوزير هي تلك المفروضة عليه، ومن واجبه التقيّد بها خلال ممارسته وظيفته العامة، ولكنه يُخرج منها كل ما يقع تحت طائلة قانون العقوبات. وبمعنى آخر فإن الإخلال بالواجبات هو كل عمل يقوم به الموظّف (الوزير) ويأتي مخالفًا لما توجب عليه أمانة تسيير المصلحة العامة، مثل رفضه توقيع مرسوم يتعلّق بشؤون وزارته وشؤون الحكومة، وامتناعه عن الحضور إلى وزارته، وتسيير أمور الناس والمصلحة العامة (4).
ويخالف بعضهم الآخر(5)،هذا الرأي، باعتبار أنه لو أخرجنا كل ما يقع تحت طائلة قانون العقوبات عن صلاحية المجلس الأعلى وأنيطت الصلاحية بالقضاء الجزائي العادي، فما هو وضع الجرائم التي ترتبط بالوظيفة كالرشوة مثلاً، ألا تشكّل عملاً مخلاً بواجب أمانة تسيير المصلحة العامة؟
إن التوسّع في مفهوم الإخلال بالواجبات المترتّبة على الوزراء قد يؤدّي إلى منحهم امتيازًا ما ويوفّر لهم حصانات في غير موضعها تحول دون ملاحقتهم لارتكاب أفعال ينصّ عليها قانون العقوبات. إن هذا الأمر يتعارض مع كل المبادئ الدستورية، ولاسيما مسلّمة المساواة بين المواطنين أمام القانون، فإن أي استثناء عام لهذه المسألة الدستورية لا يجوز من دون النصّ عليه بشكلٍ واضح يخلو من أي لبس فيه، وهو في كل الأحوال إستثناء لا يجوز التوسّع في تفسيره وتطبيقه. ولقد استقر الاجتهاد في لبنان والعالم لكون الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات ليست من الأفعال المتصلة بصورة مباشرة بممارسة الوزير لمهماته القانونية والوزارية. إنما تبقى خاضعة لصلاحية القضاء العادي وتخرج عن صلاحية مجلس النواب.
حول طبيعة المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء:
ان المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء في لبنان لا يمكن اعتباره ذو طبيعة قضائية او سياسية محضة، وانما يجمع بين الاثنين اي له طبيعة سياسية اي قضاء سياسي الى جانب طبيعته القضائية اي انه يتبع خلال المحاكمات نفس الاصول المتبعة في المحاكمات لدى القضاء، كما انه يخضع لنفس المبادئ لجهة تعليل الاحكام الصادرة عنه، وهذا مبدأ من المبادئ الاساسية وذلك بخلاف القرارات الادارية التي ليس من الضروري ان تكون معللة، فضلا عن تكوين هذا المجلس حيث يعتبر اكثر من نصف اعضائه من القضاة الى جانب احكامه التي تتمتع بقوة القضية المحكمة وهي احكام قضائية نهائية ومبرمة وملزمة، وكذلك لأن الاجراءات المتبعة هي اجراءات تحفظ للمتقاضين حق الدفاع وبالتالي تحترم فيها المبادئ الاساسية التي تخضع لها الاجراءات القضائية، في حين يطبق المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء في لبنان اصول المحاكمات المطبقة لدى محكمة الجنايات مما يضفي عليه الطابع القضائي.
ويتألف المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء في لبنان من قضاة وأيضاً من نواب أي رجال سياسة، وذلك خلافاً لتشكيل الهيئات أو المحاكم القضائية. وهو يضم 8 قضاة و7 نواب مما يعطي الطابع السياسي للمجلس لأن النواب وإن كانوا يفتقرون الى الاختصاص القانوني والقضائي إلا أن وجودهم في المجلس الغاية منه أن الجرائم التي تخضع للمحاكمة هي جرائم ذات طابع سياسي فيقتضي وجود أشخاص لهم فهم سياسي معين وينظرون الى الأمور من طابعها السياسي نسبة لطبيعة هذه الجرائم. فضلاً عن أن مجلس النواب هو الذي يتولى الاتهام وبالتالي هو جهة سياسية وليس قضائية لهيئة التحقيق مما يضفي على هذا الاتهام الطابع السياسي وعلى المجلس ايضاً.
وأهم من كل ذلك أن الجرائم التي تدخل في صلاحية المجلس هي جرائم ذات طبيعة سياسية (الخيانة العظمى، خرق الدستور، الإخلال بالواجبات المترتبة على الوزراء) لأنها مرتبطة بعمل المؤسسات السياسية والدستورية وهي نتيجة عمل هذه المؤسسات. ولذلك الرأي متفق عليه الآن لدى فقهاء القانون الدستوري على أن المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء في لبنان أو غيره كما هو الحال في فرنسا والذي يسمى بمجلس عدل الجمهورية بأنه قضاء سياسي وليس قضاء عاديا.
ومن ناحية أخرى، فإن هذا المجلس لا يتقيد بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات ولا بالقانون لجهة تحديد عناصر الجرائم التي تدخل في اختصاصاته، كما لا يتقيد بالعقوبات المنصوص عليها في قانون الجزاء او في قانون العقوبات اللبناني، وذلك لأن طبيعة الجرائم التي يحاكم عليها المجلس لها طبيعة سياسية، فحاول المشرع الفرنسي إخضاع جريمة الخيانة العظمى لأحكام قانون العقوبات إلا أنه وجد من الصعب تحديد عناصر جريمة الخيانة العظمى، وهذا ما يبرّر حقيقة ما أسلفناه سابقاً عن عدم تقيد المجلس بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات وعدم تطبيقه قانون العقوبات في القرارات التي تصدر عنه، لكنه يحكم بعقوبات لها طابع سياسي كالعزل أو كف اليد أو بأي عقوبة جزائية أخرى مستأنساً بالعقوبات الواردة في القانون دون أن يكون مقيداً بها.
ويستثنى من ذلك فقط الجرائم التي يحاكم عليها الرؤساء والوزراء غير الخيانة العظمى وخرق الدستور والواجبات المترتبة على الوزراء، إذ أن بغير هذه الجرائم المذكورة عليه أن يتقيد بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات.
ومن المسائل الهامة في هذا الموضوع والتي طرحت على القضاء العدلي منذ سنوات هي هل يعود للقضاء العدلي الحق بملاحقة الوزراء واتهامهم وإحالتهم الى القضاء الجزائي المختص؟
يجب أن نميّز هنا بين محاكمة رئيس الجمهورية ومحاكمة رئيس الوزراء. فرئيس الجمهورية وفقاً للمادة 60 من أحكام الدستور لا يمكن أن يوجّه إليه تهمة إلا لعلتي الخيانة العظمى وخرق الدستور إلا من قبل مجلس النواب بأغلبية الثلثين، كما لا يمكن أن يحاكم إطلاقاً بالنسبة لهاتين الجريمتين وحتى بالنسبة للجرائم الأخرى التي يطبق فيها القانون العادي إلا أمام المجلس الأعلى وهذا أمر لا جدال فيه، أما الجدل فيدور حول محاكمة رئيس الوزراء والوزراء أمام المجلس.
إن الإشكالية الحاصلة في هذه النقطة، فهي بسبب ما ورد في المادة 70 من أحكام الدستور ومطلعها “لمجلس النواب أن يتهم” وقد فسر البعض هذا التعبير بأنه يعود من جهة لمجلس النواب الخيار من أن يتهم الوزراء بجريمة الخيانة العظمى والإخلال بالواجبات المترتبة عليهم، ففي هذه الحالة يحاكمون وفقا للمادة 71 من الدستور أمام المجلس الأعلى، ومن جهة أخرى ان يمتنع مجلس النواب عن ذلك او يهمل هذا الأمر وفي هذه الحالة يعود للقضاء العدلي ان يتولى عملية الملاحقة والاتهام وبالتالي المحاكمة.
وهذا ما جاء في أحد قرارات قاضي التحقيق والهيئة الاتهامية في قضية الوزير الاسبق شاهي برسوميان بأن هناك صلاحية تنافسية بين مجلس النواب والقضاء العدلي أو أن صلاحية مجلس النواب غير حاجبة لصلاحية القضاء العدلي إلا اذا تولى مجلس النواب ممارسة صلاحيته. فإذا لم يقم مجلس النواب بهذه الصلاحية فلا شيء يمنع على القضاء العدلي أن يلاحق الوزراء على هذه الجرائم بدليل أن المادة 60 من أحكام الدستور قد جاءت قاطعة وحاسمة لجهة حصرية صلاحية مجلس النواب بالاتهام وحصرية صلاحية المجلس الأعلى بالمحاكمة.
وقد جاء أيضاً في هذا القرار أنه إذا باشر القضاء العدلي بالملاحقة والتحقيق فليس ما يمنع مجلس النواب أن يعود لممارسة صلاحياته من جديد فيوقف القضاء العدلي من النقطة التي وصل إليها.
إلا أن هناك رأي قضائي آخر صدر عن الهيئة الاتهامية بقضية الوزير الأسبق جوزف الهاشم الذي اعتبر انه لا صلاحيات للقضاء العدلي بمحاكمة الوزراء ورئيسهم وذلك استناداً الى المادة 70 و71 من أحكام الدستور، كما أن القرار الذي صدر عن محكمة التمييز سنة 2000 في قضية وزير الدولة للشؤون المالية فؤاد السنيورة قد اعتبر أنه لا يمكن القول بوجود تنافس في الصلاحية بين مجلس النواب والمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء من جهة والقضاء العدلي من جهة أخرى، وأن صلاحية مجلس النواب حاجبة لأصحية القضاء العدلي والمجلس الأعلى، ولكنه في الوقت نفسه اعتبر أن المجلس الأعلى يبقى صالحاً لمحاكمة رئيس الوزراء والوزراء طالما أن الفعل المرتكب قد حصل أثناء الوظيفة أو بسببها أو لارتباطه أو اتصاله بشكل أو بآخر بالوظيفة التي يمارسها، وهذا يعني استنتاجاً إذا كان الفعل المرتكب لا صلة له بالوظيفة، ففي ذلك يعود للقضاء العدلي بممارسة صلاحياته بمحاكمة رئيس الوزراء والوزراء، فالمسألة تتعلق بإعطاء الوصف القانوني للفعل المرتكب وهذ ما عادت وأكدت عليه محكمة التمييز في قضية السنيورة عندما ميّزت بين الخطأ الشخصي والخطأ المرفقي، فالخطأ الشخصي هو الخطأ الذي يعتبر مستقلاً ومفصولاً عن الوظيفة، في حين أن الخطأ المرفقي هو الخطأ الذي يحصل أثناء الوظيفة او بمناسبتها. وبالتالي فإن هذا الأمر ليس محسوماً بصورة قاطعة ورأينا أن مسألة الصلاحية والاختصاص القضائي هي مسألة تحددها النصوص الدستورية في الحالة المطروحة او نصوص القوانين، ولا يمكن أن يكون هناك اشتراك في مسألة الصلاحية أي أن يكون نفس الموضوع لصلاحية جهتين قضائيتين في الوقت نفسه، فإما أن تكون محاكمة الرؤساء والوزراء مناطة بالمجلس الأعلى، وإما أن تكون مناطة بالقضاء العدلي ولا يمكن الحديث عن صلاحية تنافسية في هذا الموضوع على الإطلاق. والمسألة هنا ليست مسألة سباق بين مجلس النواب والقضاء العدلي بحيث أنه إذا تأخر او اهمل مجلس النواب وضع يده على الموضوع يكون للقضاء العدلي صلاحية الملاحقة، فهذا الأمر لا يستقيم لا منطقياً ولا قانوناً.
أما مسألة المقارنة بين المادة 60 و 70 من أحكام الدستور على أساس أن الحجة لو أن المشرع اللبناني أراد أن يكون لكل من المجلس الاعلى ومجلس النواب الصلاحية الحصرية بمحاكمة الرؤساء والوزراء ما كا قد ذكر تعبير ” لمجلس النواب ..” ووضع نص مشابه للمادة 60 من الدستور، فالجواب لا يمكن المقارنة في هذا الموضوع بين المادتين وذلك لأن رئيس الجمهورية غير خاضع اطلاقا للمسؤولية السياسية وبالتالي لا يجوز لمجلس النواب محاسبة رئيس الجمهورية عن مجمل التصرّفات والأقوال التي تصدر عنه خلال قيامه بوظيفته، ولكن هذه الحصانة السياسية لا تحول دون ملاحقة الرئيس جزائيًا في حال ارتكابه الجرائم العادية أو الخيانة العظمى أو خرق الدستور. وفي هذه الحالات، يجب صدور قرار الاتهام عن مجلس النواب بغالبية ثلثي مجموع أعضائه. وعندما يتوقّف الرئيس عن ممارسة مهماته، تناط صلاحياته وكالة بمجلس الوزراء ويحاكم أمام المجلس الأعلى، حتى إذا ما صدر حكم بإدانته أعفي من منصبه وانتخب رئيس جديد بدلاً منه ولولاية جديدة. في حين ان الوزراء يخضعون من جهة للمسؤولية السياسية امام مجلس النواب كما يخضعون للمحاكمة امام المجلس الأعلى، ولهذا السبب جاء النص يعطي سلطة استنسابية لمجلس النواب في المادة 70 في توجيه الاتهام بمعنى أنه اذا وجد مجلس النواب ان الفعل المرتكب هو من الجسامة بحيث يستأهل عندئذ احالة الوزير الى المجلس الأعلى، اما اذا وجد ان الفعل المرتكب ليس من الجسامة بحيث يدعو مجلس النواب الى احالته للمحاكمة فهو يكتفي بمحاسبته سياسيا من خلال سحب الثقة منه.
وفي هذا الاطار يجب فهم المادة 70 من الدستور الامر الذي لا يستقيم مع الموقع الدستوري لرئيس الجمهورية الذي لا يخضع لأي محاسبة سياسية أمام مجلس النواب.
إلا أنه يتبين من خلال التجربة ان المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء لم يقم بدوره منذ استحداثه سنة 1926 حتى يومنا هذا بالرغم من وضع قانون رقم 13/90 المتعلق بأصول محاكمة الرؤساء والوزراء وبالرغم من ارتكاب عدد لا يستهان به من الوزراء بأفعال جرمية فلم يكن للمجلس الأعلى دور على هذا الصعيد مما اضطر ربما لتحرك القضاء العدلي. ويعود هذا الاهمال لأسباب عديدة منها ما يتعلق بنصوص القانون نفسه ذلك أن القانون قد أوجب اتخاذ قرار الاتهام بأكثرية الثلثين وهذا الأمر قد يكون مستعصيا ان لم يكن مستحيلا وهذا النص شبيه الى حد ما بنص المادة 55 من الدستور التي تعطي للحكومة حق حل مجلس النواب بشروط يكاد يكون تطبيقها مستحيلا.
إلا أن هناك اعتبارات أخرى تتعلق بالتحالفات السياسية، فالتركيبة الطائفية والتي قد تشكل حائلا دون امكانية اجتماع ارادة أو أصوات ثلثي أعضاء مجلس النواب على اتهام أحد الوزراء مما يقتضي معه اذا كانت نية الدولة اخضاع الجميع الى القانون بمفهومه الواسع ان تسعى الى تعديل لقانون 13/90 من خلال تبسيط الاجراءات من جهة ومن خلال اعادة النظر بعدد الأصوات التي يقتضي الحصول عليها للاتهام.
وفي خضم معركة مكافحة الفساد الواقع على المال العام وجرائمه أقرّ مجلس النواب مؤخرا مشروع القانون المتعلّق بالإثراء غير المشروع، الذي شهد بنده الأول تعديلاً ليطاول الموظفين من الفئة الرابعة الذين يتعاطون مباشرة بملفات تخص المواطنين كموظفي الجمارك والدوائر العقارية وهيئة تسجيل السيارات وغيرها، واعتبر “جرم الإثراء غير المشروع من الجرائم العادية ويخضع للقضاء العدلي”، وبالتالي هو خارج حالتي الخيانة العظمى والاخلال بالواجبات اللتين نص عليهما الدستور وأحالهما الى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، ولذلك يخضع هذا الجرم للقضاء العادي خاصة بعد اقرار هذا القانون، وبذلك تكون السلطات القضائية قد أخرجت من صلاحيتها عملية الادعاء والمحاكمة في الأفعال المرتكبة من الوزراء، والتي تكون قضاياها مرتبطة بالفساد والهدر والاختلاس، وغيرها من الجرائم الواقعة على المال العام. بمعنى أنّ أيّ صلاحية لن تنعقد لها في هذا الخصوص، من دون تعديل دستوري، حاصرةً بذلك الصلاحية بالمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء الذي ينتظر اللبنانيون إستحداثه كخطوة على طريق الاصلاح وفي إطار المساءلة والمحاسبة.
وإذا كان هناك من نية جدية لمحاربة الفساد ومحاكمة المسؤولين المرتكبين يتوجب بداية تبسيط آلية عمل هذا المجلس وتعديل قانونه لجهة آلية الاتهام والإحالة. وبالتالي يصبح وجود المجلس الأعلى كهيئة برلمانية – قضائية أمر ضروري بعد وجوب تعديل الآلية لتفعيل عمل المجلس والاقلاع عن النص القانوني الذي يستوجت توفر أكثرية الثلثين لتوجيه الاتهام، الامر الذي انعكس على فعالية عمل المجلس الذي بقي ضمن النظريات القانونية المكرّسة في نصوص دستورية وتشريعية صريحة، حيث لم تجر أية محاكمة من قبل لغاية تاريخه، الأمر الذي عاد يستدعي ضرورة الاستئناس بتجربة محكمة عدل الجمهورية كما الحال في فرنسا والتي تتألف من ١٥ قاضيا : ١٢ برلماني منتخبين مناصفة من قبل الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ بعد تجديد كلي او جزئي لهاتين الجمعيتين البرلمانيتين ومن ثلاثة قضاة حكم لدى محكمة التمييز ويترأس أحدهم محكمة عدل الجمهورية التي تندرج صلاحياتها في اطار تلقي الشكاوى عبر هيئة قبول الشكاوي من كل شخص يدعي تضرره من جنحة او جرم ارتكبه أحد أعضاء الحكومة في ممارسة وظائفه، حيث تقوم الهيئة المذكورة بحفظ الشكوى أو احالتها إلى المدعي العام لمحكمة التمييز بهدف تقديم مراجعة أمام محكمة عدل الجمهورية؛ وإما تعديل الاكثرية المطلوبة للاتهام؛ ذلك ان اشتراط اكثرية الثلثين من مجموع اعضاء المجلس تعطل عملياً عملية الاتهام مما يشجع على الارتكابات والمخالفات؛ وبالتالي الاكتفاء بالاكثرية المطلقة من مجموع النواب الذين يؤلفون المجلس.
أنور الخطيب، «القضاء السياسي في الحكومات الديمقراطية»، نشر وتوزيع دار الثقافة، بيروت، ص191
إدمون رباط،، «الوسيط في القانون الدستوري اللبناني»، دار العلم للملايين، بيروت، 1970 ص 734-733.
محمد المجذوب، «القانون الدستوري والنظام السياسي في لبنان وأهم النظم الدستورية والسياسية في العالم»، منشورات الحلبي الحقوقية. بيروت، 2002، ص335.
مقابلة مع د.حسن الرفاعي في جريدة السفير، في تاريخ 1999/3/6.
أحمد سرحال، «دراسات ووثائق أساسية في النظام السياسي اللبناني»، الطبعة الأولى، دار الفكر العربي، بيروت، 2002، ص181 و 182.