حالة من الاحتفاء سادت بين النخب الثقافية العربية جراء قيام السلطات الجزائرية بإصدار قرار بتعميم صارم للتعامل باللغة العربية في جميع الدوائر الرسمية للبلاد.
ويتوافق هذا التعميم مع تصاعد أصوات النخب السياسية المعرّبة في الجزائر الداعية للتوجه نحو فضاء وتكتلات أخرى تمليها العروبة والإسلام.
أهمية القرار أنه يأتي بعد سجال كبير بين الرئيس تبون وخلفه الشعب الجزائري والعربي، والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون حول طبيعة وجود الجزائر قبل الاستعمار الفرنسي، فضلا عن أنه جاء مغايرا لتوجه كثير من نظم الحكم العربية للاعتناء باللغة الإنجليزية على حساب العربية.
وأهمية القرار أنه يمثل ضربة جديدة للسياسة الفرنسية المعنية بالاستعمار الثقافي أتت من بلد يحتل فيه الناطقون بالفرنسية المرتبة الثانية بعد فرنسا.
الموقف الجزائري الأخير هو امتداد لموقف مبدئي يسعي لاستكمال خلع الثوب الفرنسي الذي حاولت فرنسا إلباسه للجزائر جبراً عقب اجتياحه في القرن التاسع عشر، وهو الثوب الذي عبرت عشرات الثورات الشعبية العارمة -والتي قوبلت بالمذابح الوحشية- عن عمق الرفض الشعبي الجزائري لارتدائه.
وما يدلل على عمق الرفض أن تلك المذابح استمرت علي مدار 132 عاما، وراح ضحيتها مليون ونصف المليون شهيد، وفي قول آخر 6 ملايين شهيد، ومع ذلك لم يتوقف الشعب الجزائري عن المقاومة حتى أجبر مستعمريه للاعتراف بحقه في تقرير المصير في النهاية.
كما أن القرار الجزائري الأخير ليس جديدا من نوعه، فهو يسير في إطار أحكام المادة الثالثة من الدستور التي تنص على أن اللغة العربية هى اللغة الوطنية والرسمية للبلاد، ويطابق أيضا القانون 05-91 الصادر في يناير1991 لنفس الغرض.
ويعززه رفض الجزائر عضوية المنظمة الفرانكوفونية (تجمع الدول الناطقة بالفرنسية) منذ المشاركة فيها في بيروت عام 2002، بينما قلصت مشاركاتها في كل القمم اللاحقة لدرجة “ضيف خاص”، ومن المتوقع أن تمتنع الجزائر عن المشاركة نهائيا في القمم القادمة في حال تصاعد السجال بين البلدين.
وهناك روافد شعبية تدعم عدم الانضواء تحت الرداء الفرنسي منها أن المثقفين الجزائريين يرون أن تلك المنظمة هى امتداد للمظلة الاستعمارية الفرنسية، والانضمام لها يعد تنكرا من الجزائريين اليوم لنضالات وتضحيات أسلافهم بالأمس.
ومن بين هؤلاء المثقفين وزير الثقافة الأسبق محي الدين عميمور الذي يرى أن ” منظمة الفرانكفونية تندرج في إطار الاستعمار الجديد، وفرنسا تستعمل الفرنسية لتحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية بدون الاهتمام بمصالحنا”. وقال “لن نسمح للفرانكوفونية بأن تكون حصان طروادة داخل أسوار بنائنا السياسي والاقتصادي”.
لم تقف دوافع سياسية أو اقتصادية فقط وراء دعوات تمزيق الرداء الفرنسي للجزائر، بل هناك أيضا دوافع علمية منها ما كشفته وزارة التعليم العالي من أنها أجرت استبيانا اختار فيه 93% من المستجوبين تدريس المواد العلمية باللغة الإنجليزية بدلا من الفرنسية، فيما فجر عالم الرّياضيات الجزائري أبو بكر سعد الله في مقال له بعنوان “ماذا تبقى من الفرنسية في مجال البحث العلمي؟” نقاشا حادا حول إفلاس اللغة الفرنسية في المجال العلمي وصارت مهملة لدى الدّوائر الأكاديمية الغربية التي تعتمد اللغة الفرنسية في البحث العلمي..
وضرب سعد الله مثلا بجامعة “سودبيري” بكندا التي أجرت تخفيضاتٍ هائلة في النفقات بإزالة ما يقارب من نصف البرامج المقدَّمة باللغة الفرنسية، واستغنت عن الكثير من مدرّسي الفرنسية، مع انهيار أكبر جامعة كندية بسبب هشاشة اللغة الفرنسية التي تعتمدها.
لذلك قررت وزارة التّعليم العالي والبحث العلمي اعتماد اللّغة الانجليزية في المدرسة العليا للذّكاء الاصطناعي والمدرسة العليا للرياضيات، في إطار إحلال الانجليزية محلّ الفرنسية في الأوساط العلمية، على اعتبار أن اللّغة الفرنسية لم يعُد لها مكانٌ في مجال البحث العلمي باعتراف الفرانكفونيين أنفسهم.
خاصة بعدما أصبحت معظم الدراسات العلمية والأعمال الثقافية والأدبية متوفرة في العالم بتلك اللغة، فيما تتمركز الجزائر في مؤخّرة الترتيب العالمي للدول الناطقة بها.
ويأتي القرار بعد اهتمام منظمة الكومنولث “الدول الناطقة بالانجليزية” بالجزائر كمجال خصب محتمل تزاحم فيه اللغة الانجليزية الفرنسية.
وفي كلا الحالتين سواء تم اعتماد العربية أو الإنجليزية، فإن الخاسر الوحيد بلا شك هو فرنسا ولغتها الفرنسية التي ستفقد نفوذها الثقافي العميق في هذا البلد.
ومع تنامي نفوذ روسيا والصين وتركيا عالميا في العقود الثلاثة الأخيرة، صارت فرنسا أكثر حاجة لاستغلال أمثل لسلاحها الأكثر فعالية (اللغة الفرنسية) من أجل مواكبة هذا التطور ووقف تواضع نفوذها الخارجي.
بدأت هذا الاهتمام من داخل أراضيها، فأصدرت عام 1994 قوانين تجعل الفرنسية إلزامية في جميع أشكال البث التلفزيوني ما يعني دبلجة كل البرامج الناطقة بلغات أجنبية، وألزمت محطات الإذاعة تشغيل أغان فرنسية بما لا يقل عن 40% من محتوى البث، تلاها إصدار العديد من القوانين والقرارات واللوائح التي تجرم الحديث بغير الفرنسية.
وفي موقف له دلالاته، انسحب الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك لفترة قصيرة من جلسة في قمة للاتحاد الأوربي عام 2006 احتجاجا على مخاطبة رئاسة جماعة ضغط تابعة للاتحاد الأوربي زعماء التكتل باللغة الإنجليزية.
كما حث وزير الثقافة الفرنسي فرانك ريستير أبناء وطنه على الحد من استخدام مفردات اللغة الإنجليزية في كلامهم، رغم أن الرئيس الفرنسي نفسه كان يستخدم أحيانا بعض المصطلحات الإنجليزية في حديثه.
كل ذلك يكشف مدى عمق الضربة التي يمكن أن توجهها الجزائر لفرنسا في حال تنفيذ قرارها بشكل صارم، فيما يبقى الأمل الفرنسي الوحيد هو أن يتم تعليق التنفيذ كسابقة ليصبح كالعدم؟ وهل ستنجح جماعات الضغط الفرنسية؟
المصدر:” الجزيرة – سيد أمين
**