بات واضحاً أنّ لبنان ليس متروكاً لقدره الأسود، والمقصود هنا ليس الانهيارات الاقتصادية والمعيشية والمالية وتداعياتها القاسية على الناس، بل المقصود هو انّ دفع الامور في اتجاه التفجير او إغراق الشوارع بحمامات الدم ليس وارداً، ولهذا الأمر حساباته الاقليمية والدولية. فالقرار بمدّ لبنان بالغاز لحاجات توليد الطاقة انطلاقاً من مصر مروراً بالاردن فجنوب سوريا وصولاً الى لبنان، هو قرار لمنع الدولة من الزوال، وفي الوقت نفسه يحمل خلفية سياسية تتعلق برسم توازنات اقليمية جديدة.
خلال المرحلة الماضية كرّر ملك الاردن عبدالله الثاني اكثر من مرة خشيته الكبيرة من تداعيات انفجار الوضع اللبناني على دول المنطقة. هو كان يعرب عن قلقه من التداعيات التي ستصيب النسيج الاجتماعي الاردني، والذي يختزن ما يكفي من التناقضات والمشكلات. وبدا انّ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يشاطر الملك عبدالله المخاوف نفسها. ذلك أنّ سقوط لبنان في الفوضى الشاملة واستتباع ذلك بانتشار الفوضى في الاردن، سيجعلان البركان يتمدّد بسرعة في اتجاه بلاد النيل، حيث يراهن «الاخوان المسلمون» على أي تطور لاستثماره في الداخل لمصلحة استعادة السلطة. وبالتالي، فإنّ القاهرة ترى في حماية الاردن ومنع انزلاق لبنان الى الفوضى الشاملة، وحتى في تعزيز وضع النظام السوري، مصلحة اقليمية حيوية، تلزم القيادة المصرية بالتحرك، خصوصاً مع انكفاء الدور السعودي عن هذه المنطقة. والرهان هو على الجيش اللبناني القادر حتى الآن على منع انفجار البلد بكامله، رغم ظروفه الصعبة. وليس مصر ولا الاردن وحدهما من يقلقهما انفجار الفوضى في لبنان. ذلك انّ «الدب» الروسي، والذي يعمل على ترسيخ حضوره ودوره في سوريا، يحمل الهواجس نفسها. صحيح أنّ الساحة اللبنانية ليست من أولويات السياسة الروسية، لكن انفجار الوضع في لبنان سيهدّد النفوذ الروسي في سوريا. لذلك تبدي موسكو اهتمامها بما يمكن ان يهدّد السلم الأهلي في لبنان.
في الواقع إنّ القيادة الروسية تبدي قلقها على السلم الاهلي اللبناني، وهي ضد اي عمل يؤدي الى سفك الدماء من أي مصدر أتى.
صحيح انّ القياة الروسية لا تضع لبنان ضمن لائحة اولوياتها في الشرق الاوسط، لكنها تدرك جيداً مدى الترابط العميق الموجود بين الساحتين السورية واللبنانية، وتبدي اهتمامها انطلاقاً من هذه القراءة.
مثلاً، خلال زيارة نولاند تمّ البحث في الملف السوري، لكن الحيز الأكبر من المحادثات شمل الملف الاوكراني، وسعي واشنطن لإدخالها في حلف «الناتو»، وهو ما تعتبره روسيا خطاً احمر. كذلك جرى البحث في مسألة الصواريخ والسلاح الاستراتيجي. والمقصود بهذا الكلام، انّ ملف التسوية في سوريا سيكون من ضمن صفقة اميركية ـ روسية شاملة وهو ما لم يحن أوانه بعد.
ومن حيث المضمون، تمّت إحاطة المحادثات بجدار من السرّية، ولو أنّ تسريبات تحدثت عن التركيز على الملفين السوري والايراني وما تعتبره اسرائيل ضرورة أمنية لها، وانّ وجهات النظر كانت متطابقة.
تكفي الاشارة مثلاً الى انّه فور عودة بينيت من زيارته، أطلقت الطائرات الاسرائيلية صواريخ في اتجاه مواقع في جنوب سوريا، وقالت انّها استهدفت شحنات اسلحة كانت متوجهة الى «حزب الله».
بينيت من جهته لخّص الزيارة بالتوصل الى تفاهمات جيدة ومستقرة في شأن سوريا. الواضح انّ بوتين منح اسرائيل ضوءاً اخضر لغاراتها على اهداف تعتبرها تهديداً لأمنها. لكن الواقعية تفرض القول ايضاً انّ ثمة تباينات ولو محدودة بين روسيا واسرائيل، خصوصاً لناحية تمسّك موسكو بعدم اتخاذ خطوات متشدّدة تجاه ايران في سوريا.
فقبل وصول بينيت كان رئيس اركان الجيش الايراني في موسكو، حيث تمّ الحديث عن صفقات اسلحة. فالقيادة الروسية تدرك جيداً أنّ مصالحها تفرض عليها التفاهم مع طهران على مجالات عمل مشتركة عدة.
والواقع في سوريا اكثر تعقيداً مما يعتقده البعض، ذلك أنّ موسكو ملتزمة بحماية النظام الذي يبدو اقرب اليها من ايران. فيما ايران ملتزمة بحماية بقاء واستمرارية الرئيس السوري، الذي يبدو اقرب الى طهران من موسكو، ما يعني انّ توازنات مختلفة تتحكّم بالسلطة في سوريا. فالاسد الاكثر قرباً من ايران غير قادر على الابتعاد عن روسيا التي انشأت مراكز قوة تابعة لها كما يحصل في جنوب سوريا، حيث يعمل الجيش الروسي على تدريب مجموعات عسكرية وتجهيزها. كما تجدر الاشارة الى انّ ضباط وعناصر الشرطة العسكرية الروسية العاملة في سوريا معظمهم وبنسبة 95% هم من الشيشان والمناطق السنّية في روسيا، كما هو حاصل في وجود الشرطة العسكرية الروسية في درعا جنوب سوريا وفي إدلب والعاصمة دمشق. والهدف واضح، كسب ثقة الشعب السوري على حساب قوى اخرى مثل ايران.
لذلك تحرص موسكو على منع انفجار الوضع في لبنان، فمصالحها في سوريا ستتأثر مباشرة. هي تدرك انّ الساحة اللبنانية هي «اميركية الهوى»، لكنها ستكون متشدّدة إزاء اي تهديد لمصالحها في سوريا حتى ولو جاءت من اقرب الناس اليها، والفوضى الشاملة في لبنان تهديد مباشر لمصالحها.
اما التفسيرات التي أُعطيت في لبنان حول خلفيات موقف بوتين منه، فهي كانت سطحية لكي لا نقول انّها أثارت موجة من السخرية في موسكو. فكلمة بوتين لا يجب تحميلها اكثر مما تحتمل، لأنّ لبنان ليس اولوية لدى روسيا، باستثناء رفضها القاطع للانفجار الشامل.
المصدر:”الجمهورية – جوني منير”
**