عند المفاصل الاستراتيجية وعلى إثر الأزمات الكبرى في حياة الدول والشعوب يفرض التغيير الجذري نفسه ضرورة ملحة للخروج من عنق الأزمة، الأمر الذي يتلقفه أهل الفكر و السياسة والتشريع بإحداث تعديلات دستورية جوهرية تنتقل بتركيبة النظام السياسي من نظام حكم الى آخر. هذا الوصف ينطبق على الواقع اللبناني الذي عاش في ظل «الجمهورية الأولى» منذ تاريخ الثالث والعشرين من شهر أيار العام 1926 إلى الواحد والعشرين من شهر ايلول العام 1990 تاريخ إقرار القانون الدستوري الذي تبنى مدرجات وثيقة الوفاق الوطني المتفق عليها في مدينة الطائف السعودية في خريف عام 1989 لوضع حد للنزاع الاهلي الذي عاشه اللبنانيون، وهكذا انتقل النظام السياسي اللبناني الى مرحلة «الجمهورية الثانية» التي اصطلح على تسميتها بجمهورية دستور الطائف.
فبعد المئوية الأولى لاعلان “دولة لبنان الكبير” الذي اعلنه المفوض السامي الفرنسي في العام 1920 وكوطن نهائي لأبنائه بكافة انتماءاتهم الدينية والطائفية والمذهبية والعقائدية والسياسية، يترنح المشهد الداخلي أمام “نزعة” الانتقال الى «الجمهورية الثالثة» بعد أن لمّحت الى ذلك عدد من الأطراف في الداخل والخارج، وكان أبرزهم وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان الذي حذر من إمكانية «زوال» الكيان اللبناني في حال لم تسرع الطبقة السياسية الى إصلاح الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المتردي. ورغم أن مسألة زوال الكيان اللبناني لا يعدو عن كونه من قبيل التحذير السياسي الذي لا يمكن ترجمته على أرض الواقع، حيث إن زوال الدول يعني زوال الشعوب والتاريخ والجغرافيا معاً، الأمر الذي لا يمكن حدوثه في بلد متجذر في أعماق التاريخ ومتأصل في ركب الحضارة، إلا أن هذا التحذير يطرح على بساط البحث مستقبل الحكم في لبنان وشكل نظامه السياسي البديل عن النظام الحالي.
الواضح تماماً أن فرقاء المنظومة الحاكمة ليسوا جديين في الانتقال إلى مرحلة “الجمهورية الثالثة” ولكل منه أسبابه الخاصة والأرجح أنهم عاجزون عن تنفيذ طروحاتهم العلنية كمسألة الحياد او الفدرالية او الكونفدرالية او النظام الرئاسي او المثالثة وغيرها من المشاريع الأخرى التي تتطلب بالضرورة إجراء التعديلات الدستورية اللازمة للانقلاب على دستور الطائف ، ولكنهم في الوقت نفسه يجمعون على وجود أزمة نظام تضع لبنان في كل مرة في عين عاصفة التحديات الكبيرة التي تترافق مع تصدع متزايد في هشاشة بنيته الوطنية والاجتماعية.
وهنا تختلف المقاربات بين فريق سياسي وآخر، وفقاً لمصالحه وتبعاً لمخاوفه، فمنهم من يصف دستور الطائف بالـ»مجحف» ويحصر تركيزه ببعض التعديلات التي تصب في مصلحة تعزيز صلاحيات رئاسة الجمهورية، ومنهم من يخشى فتح باب التعديلات الدستورية كي لا يتحول نظام الحكم من الثنائية المسيحية-الإسلامية الى ثلاثية يشكل الشيعة الضلع الثالث فيها، ومنهم من يطالب بتطبيق «دستور الطائف» والإصلاحات كاملة قبل الحديث عن أي تعديل فيه كاستحداث مجلس الشيوخ وإنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية وتطبيق اللامركزية الإدارية الموسعة وانتخاب مجلس نواب وفق أسس غير طائفية، ومراجعة نظام قانون الأحوال الشخصية وبين هذا وذاك يتمسك البعض الآخر وفي مقدمتهم مجموعة من “الثوار” بالمطالبة والمدافعة عن أي تعديل دستوري تفرضه ضرورات التطور الطبيعي لأنظمة الحكم.
لقد اثبتت التجارب التاريخية أن أي تعديل جوهري بالدستور اللبناني لا يكون إلا في المفاصل الكبرى حيث تتلاقى فيها الإرادة الدولية والإقليمية حول قناعة مشتركة عن عجز حقيقي لدى الطبقة الحاكمة في مسارات التقدم بالحياة السياسية والاجتماعية. ويبقى السؤال مطروحاً عن موقع طائفة الموحدين الدروز في ظل حجم وشكل التعديلات الجوهرية التي قد تطرأ على دستور الطائف وبالتالي على تركيبة نظامه السياسي؟
الحقيقة أن كل طائفة من الطوائف اللبنانية تترقب ما ستؤول اليه التوزانات الإقليمية والدولية كي تستفيد منها على المستوى الداخلي، وعندها سيجدون انفسهم جميعاً وفق حسابات منطق الربح والخسارة الطائفية والشعبوية منقسمين بين متسلق على قطار التعديل الدستوري أو معارض بشدة وربما بعنف لأي مساس بما استقرت عليه الأمور، أما طائفة الموحدين الدروز، وهي الطرف السياسي التي تعيش وضعا تراجعيا داخل النظام السياسي اللبناني ان كان على مستوى حجم التمثيل في الحكومة و نوعية الحقائب التي تسند إليها او حتى ضمور حضورها في الادارات العامة ، لذلك نرى في خطاباتها غير المعلنة مستعجلة لولوج باب “الجمهورية الثالثة” دستورياً، ليس لأنها عاجزة امام تطاحن “الكبار” على الحقائب “السيادية” والامتيازات في السلطة، أو لاستفزاز اي مكون وطني آخر؛ بل لحسابات دقيقة تأخذ بالاعتبار الدور التاريخي للدروز كطائفة كيانية ساهمت إلى حد كبير في تأسيس دولة لبنان الكبير. فقبل دستور “الطائف” كانت طائفة الموحدين الدروز تتبوّأ حقائب سيادية، مثل وزارة الدفاع والداخلية وغيرها من الحقائب الاساسية مثل وزارة العدل العدل والأشغال العامة والصحة.
اما اليوم وبعد “الطائف” فقد تقلصت حصة الدروز لتقتصر على 3 وزارات إذا كانت حكومة ثلاثينية، ووزيرين إذا كانت حكومة من 24 وزيراً، ووزير واحد إذا كانت حكومة من 14 وزيراً وما دون.
في ضوء ذلك، أصبحت العيوب الكثيرة التي تشوب النظام اللبناني أكثر وضوحاً. مع ذلك، فإن مايلفت النظر في السياق السياسي الدولي والإقليمي الحالي، هو أن بعض المحللين وصنّاع القرار باتوا على استعداد للنظر في النظام أو التجربة اللبنانية من زاوية جديدة، بسبب فشل كل التجارب الهادفة إلى خلق دولة مركزية قوية تحافظ على توزيع السلطة على اساس التنوع والتعددية بعيدا عن سياسة الغبن والاقصاء او التهميش.
هناك شبه إجماع داخلي على شيخوخة النظام اللبناني، وشبه اتفاق على تراجع حيويته وعقمه، لذلك فإن تبلور «الجمهورية الثالثة» يتأرجح بين تناقضات داخلية ومخاض خارجي لم تظهر صورة نتائجها النهائية بعد؛ فعلى المستوى المحلي يعلق اللبنانيون أملاً بأن تكون َ المبادرة الفرنسية، مدخلاً سلساً “للجمهورية الثالثة” التي ربما تتبدى طلائعها بشكل واضح على أنقاض «الفراغ الرئاسي» الذي يتوقع أن يلي عهد الرئيس ميشال عون؛ كما أن هذه المبادرة
بما تتضمه من مكونات قد تستطيع ببث بعض الروح في جسد الاقتصاد اللبناني المتهالك، الأمر الذي يترافق مع تغيير نوعي في جسم الوحدة الوطنية، مما سيفرض، بقوة الأمر الواقع، تغييراً جوهرياً في أدوات ومفردات اللعبة السياسية،ويقودنا إلى نظام سياسي جديد يحمل في مضامينه فضائل الجمهورية الموعودة.
أما على المستوى الإقليمي والدولي فإن اللحظة الإقليمية لرسم معالم «الجمهورية الثالثة» تتأرجح بين واقع قصير المدى يفرض نفسه على الأرض من خلال “الانكفاء المدروس” للدور العربي وتحديدا السعودي أمام الدور المتنامي للمحور الروسي-الإيراني من جهة، وأبعاد استراتيجية طويلة المدى تفرضها السياسات الغربية-الإسرائيلية من جهة أخرى، في حين تبقى المحاولات الأردوغانية الطامحة لتأدية دور رئيسي في لبنان من ضمن الصراع السني – السني لتزعم المنطقة العربية.
خلاصة القول، أنه في ظل مشروع “صفقة القرن” الأميركية، وما أسفر عنه من توالي إعلانات التطبيع العربي-الإسرائيلي، وفي ظل التقارب السعودي – الايراني وبانتظار تحرك ملف المفاوضات النووية الاميركية – الايرانية ، ومع انطلاق عجلة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان الصهيوني برضا ودعم وطني شبه جامع ولافت، ومع تنامي رغبات السيطرة على النفط والغاز في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، ومع دور أكبر متوقع ومأمول للوعي الشعبي اللبناني الذي تغذيه تنامي الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في لبنان، فإن بوادر الدخول إلى «الجمهورية الثالثة» صارت ضرورية وربما شبه حتمية، وربما تأخذ بالاعتبار اعادة تنظيم وتوزيع الصلاحيات بين المراكز واستحداث المؤسسات الدستورية وفي طليعتها مجلس الشيوخ اللبناني واسناد رئاسته للدروز على نحو يتجاوز الغبن الذي يطاول بعض المكونات الاجتماعية وإعادة تصحيح التوازن بين الأجنحة المختلفة التي تشكل النواة الداخلية للنظام اللبناني. ، ولا تتجاهل الهواجس الوطنية المتراكمة، فتعيد توزيع الصلاحيات بين المراكز الدستورية مع إقرار بفكرة المداورة في مراكز القرار بين مكونات المجتمع اللبناني، على أمل إجراء انتخابات حرة ونزيهة لا ترتكز على القيد الطائفي، وذلك تأسيسا لانطلاقة «جمهورية ثالثة» تكون بدورها انتقالية لـ»جمهورية رابعة» يصنعها اللبنانيون بأنفسهم ولأنفسهم وتقوم على اساس الكفاءات والخبرة، وأن تكون سمة نظام الحكم المنتظر فيها المواطنة الحقيقية.
**