يقول المتنبي: “قد تتوالى المصائب والمحن على المرء… فلا يصحو من مصيبة إلا والأخرى متشبثة بها، وقد لا يرى الفرح والسرور إلا نادراً”.
هكذا اصبحت أحوال اللبنانيين، التي تتكالب المصائب وتتوالى عليهم مجتمعة، حيث فقد معها المواطن توازنه بانتظار انفراج الشدة وزوالها.
انفجرت “القنبلة الموقوتة”، وعنوانها إعلان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة رفع الدعم عن المحروقات، وهذا القرار قد يكون المفجر للمظاهرات والفوضى، وتأجيله لم يكن تعاطفاً مع اللبنانيين وإنما لاختيار الوقت المناسب وتهيئة الأجواء الملائمة لهذا التطور المرعب.
إنه حكم بتعليق المشانق أصدره رياض سلامة بحق عموم المواطنين بإعلانه عدم توفر ما يكفي من دولارات لتغطية دعم المحروقات، مما يعني عملياً تجاوز سعر صفيحة البنزين الـ 300 ألف ليرة، وما يستتبع ذلك من غلاء فاحش في أسعار السلع والخدمات، ومزيداً من تدهور في الاقتصاد وضرب القطاعات الإنتاجية وأزمة في الدواء، والمازوت والبنزين، وزيادة ساعات التقنين في الكهرباء، وتهديد العام الدراسي وغيرها من المشاكل الأخرى، التي تفتح البلاد على احتمالات فوضى اجتماعية وأمنية مع ما يرافقها من تطورات لم تكن بالحسبان وعلى كافة المستويات.
لم نقرأ في تاريخ البشرية مثل هذا النوع من التآمر التي تمارسه الطبقة الحاكمة بحق شعبها، مثل ما تفعله اليوم المنظومة الحاكمة في لبنان التي تحتمي في أوكارها، تنتظر الضوء الأخضر، وإشارات انطلاق التسوية، لتعود كما في كلّ مرّة للتآمر، من خلال احتجاز الشعب اللبناني في أنبوب العناية الفائقة مروَّضاً مخدّرًا.
وهكذا تتكرّر الأخطاء ويقف تاريخ لبنان في مكانه لا يتقدّم، بل يربض ويتعطل ويدخل في دوران حول ذاته، ليظن البعض إنّه يُعيد نفسه. ومقابل ذلك، تغرق القوى التي تطلق على نفسها “الثورة” أو “المعارضة” بالثرثرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي أوهام الفدرالية والحياد والإنتخابات وحلم التغيير من داخل المجلس النيابي، وبتحويل انفجار مرفأ بيروت إلى المحكمة الجنائيّة الدوليّة، وباستعادة أموال خزينة الدولة المنهوبة وأموال الناس التي استولت عليها في المصارف.
هم يتلهون بأمور كثيرة فيما المطلوب واحد وهو إنفجار الكرامة الوطنية في وجه التسويات والمؤامرات والصفقات وانفجار ولاء اللبنانيين لوطنهم في وجه مَن يحاولون النيل من هويتهم الوطنية.
استعادة صيغة التآمر على اللبنانيين في هذه المرحلة، تعني أنّ القضاء اللبناني لن يُسقِط الأقنعة عن وجوه المُجرمين، كالعادة، ولن يقوى على رفع الحصانات عن المطلوبين، لاستكمال التحقيق في جريمة انفجار مرفأ بيروت، وتعني كذلك أنه لن يُحقِّقَ لعائلات ضحايا المرفأ سوى المزيد من الغضب واليأس والإحباط، وسيستمر الغموض حول هذه الجريمة، ويجري التعتيم على المتسبّبين بها، أسوةً بباقي الجرائم والاغتيالات السياسية في لبنان.
لبنان الجديد لا يزال في المختبر؛ بانتظار الضوء الأخضر الآتي من وراء البحار وعبر المحيطات، والكلّ ينتظر: الأنتلجنسية اللبنانية المغرورة والغارقة في التطييف والتمذهب، وبعض القوى والأحزاب التي لم يتبقَ منها إلا الصورة وأفول.
الكلّ يكذب على نفسه، ويصدّق التضليل. يصدق بأنّ القبول بتسوية جديدة سيُجَنب لبنان الإنفجار. فهل ستسبق التسوية الإنفجار أم العكس؟
ربما لا يعرف اللبنانيون من الذي قتل أولادهم، لكنهم يعرفون جيداً مَن سرق أموال المودعين، ويعرفون وجوه من اغتال الدولة ودمر اقتصادها ونهب ثرواتها. هم اليوم يلهثون خلف المناصب والثروات والتسويات إلى أن تحين ساعتهم، وترفع عائلات ضحايا المرفأ صورَ الأحباب في الشوارع والساحات، تصرخ ظلماً وألماً وعطشاً للحرية وشوقاً للتغيير، الى جانب الفقراء، يحملون فقرهم وصدورهم العارية وحناجرهم المجروحة وصلوات الأمّهات.
هنيئاً لكل الذين مازالوا يصفّقون كل يوم للواقع المرير الذي يعيشونه، إفرحوا بالمصائب التي تنزل على رؤوسكم من غزاة السياسة ولا تريدون أن تغيروا شيئاً، فقط بسبب حقدكم الطائفي الأعمى، والمحسوبية، والزبائنية، والذل الذي ارتضيتموه على أنفسكم من قبل مجموعة همّها الأوحد مصالحها الشخصية ولو اضطرها الأمر الى الفتك بالبلد كلّه ونهبه وتدميره.