عندما كتب عبد الرحمن ابن خلدون مؤسس ورائد علم الاجتماع الحديث في كتابه الشهير (مقدمة ابن خلدون) عام 1377م، أي قبل أكثر من 641 سنة، عن عوامل انهيار الدول والمجتمعات والأمم، وشبّه عوامل قيام الدول وانتهائها بدورة حياة الإنسان من الميلاد إلى الممات، بمراحلها المتعددة من القوة إلى الضعف والهرم والموت، ربما كان يريد ان يصف لنا الاحداث المؤسفة التي يعيشها غالبية اللبنانيين بسبب كثرة الخبثاء الساقطين.
يقول ابن خلدون: “يكثر المنجّمون والمتسوّلون، والمنافقون والمدّعون، والكتبة والقوّالون، والمغنون النشاز والشعراء النظّامون، والمتصعلكون وضاربو المندل، وقارعو الطبول والمتفيقهون، وقارئوا الكفّ والطالع والنازل، والمتسيّسون، والمدّاحون، والهجّاؤون، وعابرو السبيل، والانتهازيون”.
- هاهم المسؤؤلون والسياسيون المنافقون والمتسولون والشعراء الذين يتبعهم الغاوون والذين يقولون ما لا يفعلون، والكتبة القوالون الكذابون الذين يمتدحون أسيادهم وزعماءهم وأولياء نعمتهم وهم كاذبون ويعلمون أنهم يكذبون، والطبالون، والهجاؤون، والانتهازيون الحاقدون ويفعلون ما يفعلون للحصول على حفنة من الدولارات للأسف.
ويتابع ابن خلدون: “تتكشف الأقنعة ويختلط ما لا يختلط، يضيع التقدير ويسوء التدبير، وتختلط المعاني والكلام، ويختلط الصدق بالكذب “.
- من واقع الحياة اليومية اللبنانية نرى ان الأقنعة قد تكشفت واختلط الحابل بالنابل، وأصبح المواطن لا يعلم الصواب من الخطأ، فالمخطئ يتمسك بخطئه على أنه صواب ويُطالب المُحق بالتنازل عن حقوقه لأنه يريد أن يكون على صواب بصرف النظر عن خطئه، وضاع التقدير بين الناس وانعدمت القيم في المجتمع وأصبح صاحب العلم والدين مصنفًا في خانة االخائن ، والمنافق والطابور الخامس من المقربين والمحبوبين، وأصبح الكذب والسرقة والتحايل من الموجبات للدفاع عن أخطائهم وسرقاتهم، وما أكثر الاتهامات والإدعاءات والسرقات والأكاذيب، ويا عجبا لما يجري.
واضاف ابن خلدون:” يسود الرعب ويلوذ الناس بالطوائف، وتظهر العجائب وتعم الشائعات، ويتحول الصديق إلى عدو والعدو إلى صديق، ويعلو صوت الباطل، ويخفتُ صوت الحق، وتظهر على السطح وجوه مريبة، وتختفي وجوه مؤنسة”.
- كلنا نشاهد اليوم ونسمع عن طوابير الذل امام محطات الوقود وحالات العوز والفقر في بيوت اللبنانيين لصالح الذين استولوا على أموالهم ومقدراتهم وقوتهم اليومي وهم يتحججون بالطائفية والمذاهب والصلاحيات، والفضائح والشائعات عمت في كل البلاد ونُذُر قيام الفوضى الاجتماعية اصبحت على الأبواب مالم يَعِ أصحاب القرار خطورة اللعب بالنار فعندها سنعود قبائل متفرقة بينها قتال، ويتحول الصديق والأخ إلى عدو ، ويخفت صوت الحق باعتقال وتكميم أفواه الأحرار، ويعلو صوت الباطل بتولي الجُهال زمام القرار، وتختفي الوجوه المؤنسة المُريحة لتظهر وجوه غير مألوفة ولا مقبولة.
ويستطرد ابن خلدون: “ويتدبر المقتدر أمر رحيله والغني أمر ثروته، ويصبح الكل في حالة تأهب وانتظار، ويتحول الوضع إلى مشروعات مهاجرين، ويتحول الوطن إلى محطة سفر، والمراتع التي نعيش فيها إلى حقائب، والبيوت إلى ذكريات، والذكريات إلى حكايات”.
- السؤال الذي يطرح نفسه: ما أسباب انهيار الاقتصاد اللبناني ؟وما هي أسباب تهريب الأموال من المصارف اللبنانية إلى بنوك الدول الأجنبية؟
تتلخص الأسباب في الآتي:
1- معظم الحكام والمسؤولين والمقتدرين حولوا أموالهم للخارج خوفاً من حدوث أية مواجهة وكذلك خوفاً من تجميد أموالهم ونقودهم كما حصل بأموال بقية المودعين .
2- معظم الحكام والمسؤولين والمقتدرين دبروا أمر رحيلهم مع اولادهم في حالة لا سمح الله وقوع أي حادث أو طارئ أو فوضى داخلية.
3- الجميع يفكر ويسعى للحصول على جنسية أجنبية بسبب عدم الشعور بالأمان في دولتهم وحكامهم المستبدين.
4- وسبب رئيسي آخر بأن الحكام والمسؤؤولين بدلاً من أن يعملوا لصالح وطنهم وشعبهم نجدهم يقهرون ويظلمون ويعتقلون الناس وينتظرون التصويت لهم في الانتخابات ، أليست هذه مفارقة غريبة؟
وفي بلد مثل لبنان ، محكوم بالتوافقات والصفقات بين الزعامات وليس المؤسسات السياسية، هل ستكون الانتخابات النيابية القادمة، سواء أكانت مبكرة أو في موعدها المقرر في ربيع عام 2022 ، نقطة فاصلة في تطور الحياة السياسية في لبنان؟
ولو تم إجرائها قبل موعدها المقرر هل سيكون تأثيرها الأقوى ليس في ما تفرزه من نتائج وإنما في رمزيتها التي يمكن أن نعتبرها الهدف الثالث الذي سجلته حركة الاحتجاجات في مرمى الطبقة السياسية، بعد تسجيل الهدف الأول باستقالة حكومة سعد الحريري ، والهدف الثاني بسقوط احزاب السلطة في انتخابات نقابة المهندسين بعد ان كسرت لوائح “النقابة تنتفض” الاحتكار السياسي للعناوين السياسية التقليدية؟
ان الانتخابات النيابية القادمة ستكون محطة اختبار حقيقي، ولكن هذه المرة ليست للطبقة السياسية، وإنما لقدرة الشخصيات والنخب الفاعلة في تنظيم صفوفها و المشاركة في النظام السياسي من خلال العمل في البرلمان حتى وإن كان بعنوان المعارضة السياسية.
فالأهم هو تصحيح مسار النظام السياسي عن طريق المشاركة الفاعلة والمؤثرة في صنع السياسات العامة.
**