عند كل استحقاق يعيد النظام السياسي في لبنان انتاج ازمات تتكرر تارة وتتراكم تارة آخرى، أزمات تختلف بالشكل لكنها تتجانس بالمضمون وتختلق لتوصيفها مسميات مختلفة، الطائفية السياسية، الحياد، النظام المدني ، الديمقراطية التوافقية، قانون الانتخابات، الصلاحيات وغيرها من المصطلحات التي لا تجد مرادفاً لها في المعاجم السياسية في العالم.
هو القاموس السياسي اللبناني ونظامه الطائفي الذي لا يشبه الا نفسه والذي يدفع بالأطراف الخارجية للتدخل بعد ان تعجز الطبقة السياسية الحاكمة عن اجتراح الحلول المناسبة للخروج من النفق المظلم والحاجة الدائمة للرعاية الخارجية والإمساك بيد البلد لإخراجه من محنته وإنقاذه من أزماته المتتابعة حتى اصبحت المرحلة الراهنة عنوانها العمل على تشكيل “حكومة مهمة” في ظل الضعف في المناعة الوطنية التى تجعل البلد منكشفاً، وتزيد من جاذبية التدخل من قبل بعض الأطراف الخارجية.
لقد شهدنا على مدى العقود الخمسة الماضية مبادرات عربية ومؤتمرات متعددة الأطراف التى انعقدت في عواصم عربية مثل القاهرة وتونس والطائف والدوحة والتي كانت شرطا ضروريا لاطلاق عملية التسوية الداخلية بين الأطراف الفاعلة في لبنان .لكن يبدو الأمر مغايرا في هذه المرحلة بسبب طبيعة الأزمة الاقتصادية وتداعياتها المأساوية على اللبنانيين، وبعد تقاعس ” جماعة الطائف” عن ولوج باب الاصلاحات البنوية الضرورية للخروج من حالة الانهيار الشامل باعتبار ان التدقيق الجنائي وغيره من الاصلاحات الضرورية سيضعف من نفوذها وسيطرتها ضمن التركيبة الطوائفية.
وفي ظل طرح الوسيط الفرنسي مقاربته المختلفة للأزمة اللبنانية تتجه الأنظار إلى اجتماعات تعقد في الاليزيه بين الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، الذي أطلق مبادرته، التي لا تزال تعاني منذ 3 أيلول 2020، وها هي تدخل شهرها السابع، من دون بروز معالم ولادة “حكومة مهمة” ، ورئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، وهو لقاء سيتبعه لقاءات مع شخصيات لبنانية وممثلي المكونات السياسية التي كان قد جمعها وحاورها الرئيس الفرنسي على طاولة قصر الصنوبر في بيروت ، في محاولة منه تجديد البحث عن انعاش مبادرته والنقاش في سبل تطوير النظام السياسي اللبناني وتحصين عملية النهوض الوطني وتقاسم السلطة في تشكيل الحكومة المزعومة باسم حقوق الطوائف.
وكانت فرنسا قد استضافت الاطراف اللبنانية في “سان كلو” عام ٢٠٠٧ في خضم الأزمة اللبنانية حينذاك، وتأتي مبادرة الرئيس ماكرون في هذا الوقت لمواكبة الأزمة اللبنانية بدءا بتشكيل الحكومة التي تنظر اليها باريس كمنطلق للشروع في برنامج الاصلاح المطلوب لوقف الانهيار المتسارع.
وايا تكن الحسابات الفرنسية والعربية والإقليمية والمحلية المتصلة بلقاءات ” سان كلو” والبحث في سبل تشكيل الحكومة، فإن المعطيات التي تعني الرئيس المكلف سعد الحريري ، تتصل بحسابات لديه سواء في ما خص الانقلاب على رئيس الجمهورية ومحاولة اسقاطه ومساجلته في صلب صلاحياته المنصوص عليها في الدستور وذلك من بوابة مسألة الحكومة التي يريدها الحريري مقدمة تعيد احياء المنظومة الفاسدة التي تتحكم بالبلاد منذ التسعينات ،والخروج من سجن “الجفاء السعودي” الذي ما يزال يعارض وصوله الى سدة الرئاسة الثالثة.
في كل الأحوال، يبدو لبنان بعد الانفجار الذي هزَّ مرفأ بيروت أمام وضع سياسي جديد، فمن جهة، اتضح عدم قدرة طرف سياسي واحد على فرض شروطه ، بعد أن سقطت حكومة حسان دياب، ، أو في تجاهل تامٍّ لمطالب الحركة الاحتجاجية في الشارع . وقد يدفع هذا الواقع والضغط الدولي ورغبة احزاب السلطة في إنقاذ نفسها إلى تبني فكرة تشكيل حكومة لا مفر امامها من إجراء إصلاحات جذرية لنظام قائم على الزبائنية والمحاصصة الطائفية، وتقديم تنازلاتٍ من جميع الفرقاء السياسيين؛ لأن البديل سيكون فوضى أمنية، وانهيارًا ماليًّا واقتصاديًّا شاملًا.
لقد اتضح أنّ للرأي العام اللبناني وزنًا محليًّا ودوليًّا. وهذا هو الضمان الوحيد لعدم تعزيز هيمنة السلطة الحاكمة لكنّ الأمر يعتمد على قدرته على فرض مطالب مختلفة ، مثل تغيير قانون الانتخابات، وفرض الحراك الثوري نفسه طرفًا في أي حوار وطني قادم، وطرح برامج عملية وواقعية قابلة للتطبيق تدريجيًّا بالتوافق؛ للانتقال بلبنان من وضعه الراهن. إذا لم يحصل هذا، ستعيد الأزمة الحالية إنتاج نظام المحاصصة الطائفية بصيغة “حكومة وحدة وطنية” تكون ولادتها هذه المرة من “سان كلو”.
**