إنتقلت الصين الى مرحلة مواجهة النفوذ الأميركي بدلاً من المهادنة، وأصبحت هي المنقذ للمضطهدين بالعقوبات مثل طهران.
فتوقيع الصين إتفاقية التفاهم الإستراتيجي مع طهران، هي تجاوز كل مخاطر العقوبات الأميركية التي تتسلّح بها واشنطن ضد مَن يحاول فك حصارها لطهران، وهذه الخطوة الصينية – الإيرانية، تعني أن الصين حسمت أمرها، والسؤال، لماذا أقدمت الصين الآن على خطوة التحدي؟.
بالتأكيد فالعداء الأميركي هو السبب، وما تقوم به واشنطن منذ سنوات ليس سياسة عابرة بل خطوات مدروسة ومبرمجة هدفها هزيمة الصين وفق خارطة طريق لتطويق قوتها الإقتصادية ولمنعها من التمدد على الساحة الدولية.
لقد تعرضت حسابات الدولة العميقة في واشنطن لضربة كبيرة مع إدارة الرئيس دونالد ترامب التي إتّخذت جملة من العقوبات تجاه طهران دون الإلتفات الى العواقب، وتصرّف ترامب بضغط المحيطين به، ووعداً قطعه لناخبيه الذين يهتمون بمصلحة الكيان الصهيوني حتى لو كان على حساب المصلحة الأميركية، وهذه الخطوة هي مَن عبّدت الطريق بين طهران وبكين، وعندما جاء الرئيس بايدن، كان عليه أن يصلح ما أفسده سلفه ترامب، لكنه حاول دفع طهران الى التفاوض على إتفاق معدل ووفقاً للشروط الأميركية وهو ما رفضته طهران.
لم تثنِ العقوبات الأميركية المالية والاقتصادية التي فرضت على الجمهورية الإسلامية الإيرانية نتيجة تفوقها النووي من أن طهران موجودة دائماً على خارطة السياسة الدولية، وهذه المرة ليس عبر تفوقها العسكري وتطورها الاقتصادي والعلمي وتطور برنامجها النووي الذي قض مضاجع الدول الأوروبية وأميركا، وليس عبر وقوفها الدائم الى جانب القضايا المحقة ودعمها لمقاومات دول الممانعة في وجه الإرهاب التكفيري في الساحات العربية من العراق الى سوريا وليبيا واليمن ووقوفها الى جانب القضية الفلسطينية المحقة في مواجهة العدوان الصهيوني، فها هي إيران من جديد تثبت وجودها بقوة في السياسة الدولية، وهذه المرة عبر بوابة التنين الصيني، الذي بدوره لم تثنه العقوبات الأميركية عن استمرار تمدده في دول العالم أجمع تجارياً واقتصادياً وسياسياً من خلال رفع “الفيتو” في وجه بعض القرارات الدولية المجحفة بحق بعض الدول الشرق أوسطية، حيث قررت إيران، أحد أقوى اقتصاد صامد في التاريخ، والصين، أحد أكبر اقتصادات العالم السير معاً على طريق الحرير بعيداً عن “فكي الكماشة” الأميركية والرهانات على أي تغيّر في الإدارة الأميركية شكلاً أو مضموناً، لتلتقيا عند المصالح الإقتصادية المشتركة التي سترسم بلا أدنى شك تداعياتها على المنطقة والعالم، ما سيزعج واشنطن كثيراً ويزيد من ارتباك استراتيجيتها للمنطقة، فكانت أكبر عملية تحرر من الحصار الإقتصادي الأميركي وأدواته، عبر توقيع مذكرة تفاهم شاملة للتعاون الاستراتيجي بين الصين وإيران، وعلى مدى خمسة وعشرين عاماً، تشمل مجالات النفط والطاقة والاستثمارات العسكرية والبنى التحتية والرعاية الصحية وتكنولوجيا المعلومات: فبكين العملاق الاقتصادي بحاجة دائمة للطاقة وهو يستورد 75 % من حاجته، في وقت تمتلك إيران ثالث أكبر احتياطي من النفط في منظمة “أوبك”، وهدف بكين الأول تأمين النفط بشكل سلس وأسعار مخفضة.
وعلى الرغم من عدم تحديد قيمة مذكرة التعاون علنياً إلا أن بعض المحللين تحدث عن أنها تقدر بنحو 400 مليار دولار.
أهمية هذا التفاهم
وصل مستوى العلاقات الصينية – الإيرانية إلى حدود الشراكة والتفاهم، وهو مستوى متقدمٌ وقوي من مستويات التنسيق والتشاور في العلاقات الدولية، وقد اتضح مدى تطور مستوى العلاقات الصينية -الإيرانية مع الرفض الصيني الرسمي لإستراتيجية الضغوط القصوى الأميركية على إيران؛ وذلك بدأ من رفض بكين للانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، ثم رفض عودة العقوبات الاقتصادية الأميركية على إيران، وأخيرًا عدم تصفيرها واردات النفط الإيراني رغم العقوبات الأميركية المشددة ضدّ إيران، واليوم توّجت تلك العلاقات في أهمية أبعاد وتوقيت مذكرة التفاهم التي وقعت والتي تميّزت بأنها ذات أبعاد اقتصادية وسياسية هامة عكست طموح الصين المتزايد للعب دور أكبر في منطقة كانت تمثل الشغل الشاغل للولايات المتحدة لعقود، ووُقعت في عز الكباش الأميركي الصيني، والصيني الغربي، والإشتباك الأميركي الإيراني حول ملف طهران النووي، وفيما الدول العظمى ترسم خارطة العالم السياسية الجديدة، والصراع على أشده حول من يمسك بالإقتصاد العالمي خاصة بعد الإنهيار الإقتصادي الذي طال دول العالم جراء وباء كورونا، وفيما أوروبا والخليج وكل الشرق الأوسط، يراقب عن كثب التطورات المتسارعة وانعكاساتها، هذا على الصعيد السياسي، أما استراتيجياً فإن هذه الإتفاقية ستعزز نفوذ الصين في المنطقة خاصة وأن إيران موجودة على مدخل مضيق هرمز، وتتمتع بموقع استراتيجي هام على طريق الحرير الذي يربط الصين بأوروبا وأفريقيا والذي من خلاله ستمر السلع الصينية مما قد يزيد من نفوذ الصين في المنطقة، إذ بذلك تصبح الصين قادرة على تثبيت وجود استراتيجي لها قرب المضيق، من حيث يمر معظم نفط الخليج الى العالم.
وبكين من خلال هذا التفاهم أيضاً، جعلت طهران شريكاً في مشروع الحزام والطريق، الذي هو مبادرة صينية قامت على أنقاض طريق الحرير القديم، ويهدف إلى ربط الصين بالعالم عبر استثمار مليارات الدولارات في البنى التحتية على طول طريق الحرير الذي يربطها بالقارة الأوروبية، ليكون أكبر مشروع بنى تحتية في تاريخ البشرية، ويشمل ذلك بناء مرافئ وطرقات وسككاً حديدية ومناطق صناعية.
ويعود تاريخ طريق الحرير القديم إلى القرن الثاني قبل الميلاد، ويشير الاسم إلى شبكة الطرق البرية والبحرية التي ربطت بين الصين وأوروبا مروراً بالشرق الأوسط، بطول يتعدى عشرة آلاف كيلومتر.
أما الطريق الجديد، فهو مشروع صيني عملاق تشارك فيه 123 دولة، تريد الصين من خلاله تسريع وصول منتجاتها إلى الأسواق العالمية، بما في ذلك آسيا وأوروبا وأفريقيا وأميركا الجنوبية والوسطى ما يعزز علاقاتها التجارية مع تلك الدول.
هذا بالنسبة للتنين الصيني، أما بالنسبة لإيران، فهي من خلال تلك الإتفاقية، فكّت ولو مبدئياً عزلتها، وستحاول تقويض ضغوط سياسة العقوبات الأميركية القاسية عليها، وستستغل التوقيع في مفاوضاتها المرتقبة مع واشنطن بشأن الملف النووي وملفات المنطقة، في وقت ستستفيد من نقلة نوعية اقتصادية، ومالية واستثمارية وتقنية، وحتى عسكرية، ما يسمح لها بتعزيز نفوذها ويخفف من عزلة إيران الدولية ناهيك عن مساعدة إيران في مواجهة وباء كورونا.
ونقلت وكالات الأنباء الإيرانية عن وزير الخارجية الصينية وانغ يي قوله “إن علاقاتنا مع إيران لن تتاُثر بالوضع الراهن، بل ستكون دائمة واستراتيجية، وأضاف “إيران تقرر بشكل مستقل علاقاتها مع الدول الأخرى وليست مثل بعض الدول التي تغيّر موقفها بمكالمة هاتفية”.
من جهته المتحدث باسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده وصف الإتفاقية بأنها عميقة ومتعددة الطبقات وكاملة وهي تتضمن خارطة طريق متكاملة وذات أبعاد اقتصادية وسياسية.
الولايات المتحدة أم الصين من ستختار الدول؟
إيران اختارت الصين أمام أعين الإدارة الأميركية الجديدة وقادة أوروبا، هذا الثنائي قد تنضم إليه روسيا ويصبح “ترويكا” خصوصاً بعد تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأخير الذي دعا جميع الدول للتخلي عن الدولار كعملة تجارية عالمية والسعي لخلق نظام مالي جديد بين دول شرقي آسيا.
ومما لا شكّ فيه أنّ مناهضة الولايات المتّحدة تؤدّي الدور الأبرز في جمع هذه القوى الثلاث: فإيران تهتمّ بأن تكون اللاعب الأقوى في الشرق الأوسط، فيما لدى روسيا والصين طموحات عالميّة، على صعيد تحجيم التفوّق الأميركيّ العالميّ وتكريس نظام دوليّ متعدّد الأقطاب. “خلطة” الأهداف هذه تشكّل نظريّاً بيئة مثاليّة للتعاون بين هذه الدول.
وعلى الرغم من أنّ هذه العلاقات لم تصل إلى مستوى الحلف، قرّرت هذه الدول بناء روابط مبنيّة على البراغماتيّة، ساعدت في ذلك مجموعة من المصالح المشتركة من بينها مواجهة الولايات المتّحدة. كما أدركت إيران أنّها بحاجة لكلتا الدولتين لمواجهة العقوبات الأميركيّة ولحمايتها في مجلس الأمن الدوليّ، وهذا ما فعلتاه وإن بشكل غير دائم.
كما أن بيجينغ وموسكو تحميان طهران من العزلة الكاملة وتؤمّنان لها دعماً سياسيّاً ومساعدة دفاعيّة وروابط اقتصاديّة “لا يمكنها الحصول عليها من أيّ مكان آخر”. كذلك، استفادت القوّتان الكبيرتان من دخول قطاعات إيرانيّة حيويّة. والأهمّ أنّ الدولتين، وعلى عكس الدول الأوروبّيّة، أصبحتا على تماس وإدراك بالبيئة الاستثماريّة والصناعيّة في إيران. لذلك، وبمجرّد رفع العقوبات عن طهران، ستتمتّع شركات الدولتين بأفضليّة كبيرة على الشركات الأوروبّيّة في العودة إلى الأسواق الإيرانيّة بفعل خبرتها.
أما بالنسبة للدول الأوروبية، إنّ الاتفاقَ النووي يمثِّل لأوروبا مصلحةً حيوية، ولا يرقى إلى كونه مصلحةً مصيرية لا يُمكن الاستغناء عنه، وقد ظلَّت الأطراف الأوروبية مُصرَّةً على التمسُّك به رغم الانسحاب الأميركي منه؛ لأنّه كان يحقِق أهدافه الأساسية، على وجه الدقة ما يتعلَّق بمعالجة المسألة النووية لإيران تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرِّية، وتحت إشراف مجموعة 5+1. لكن مع انتفاء الكثير من منافع هذا الاتفاق لا سيما تحرُّر إيران من بعض التزاماتها، وتفعيل دول الترويكا (إيران – الصين – روسيا) لآلية فضّ النزاع، فضلًا عن انتفاء المصالح الاقتصادية بفعل العقوبات الأمريكية، والضغوط الأميركية على الحليف الأوروبي من أجل تمديد حظر السلاح على إيران، وشروع إيران في تهديد الأمن والاستقرار الإقليميين، ومواصلة تجاربها الصاروخية، فإنّ الأطراف الأوروبية لن تدخل في عداء مع الولايات المتحدة لأجل إيران، بل إنّ موقفها قد يتّجه ليكون أكثر انسجامًا مع الولايات المتحدة مع مرور الوقت، وهو ما تتوقّعه إيران، وبالتالي يمكن أن يتّجه الأوروبيّون إلى الإبقاء على الاتفاق دون أي ضماناتٍ أوروبية على المدى القريب، أو قد تتّخذ الدول الأوروبية موقفها بالانسحاب من الاتفاق.
مما لاشك فيه أن الإتفاق الصيني – الإيراني شكّل صفعة للإدارة الأميركية الجديدة خصوصاً أن الرئيس جو بايدن قذ صرّح أن الصين لن تصبح الدولة الأولى في العالم، مادام هو في البيت الأبيض، ودعا الدول الديموقراطية الى إطلاق مبادرة في وجه “الحزام والطريق” تساعد مَن هم فعلاً بحاجة للمساعدة من دول العالم، أما وزير خارجيته أنتوني بلينكن فلم يغلق الباب نهائياً أمام الصين وقد عكس موقفه في اجتماع حلف شمال الأطلسي رغبة أميركية في التعاون معها عندما قال: “واشنطن لن ترغم حلفاءها على الاختيار بين الولايات المتحدة والصين”.
الاتفاقية وقعت، وهي تحتاج لموافقة مجلس الشورى عليها، المتوقعة قبل موعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية في حزيران المقبل.. فهل ستمر من دون عقبات؟ وماذا عن موقف الولايات المتحدة منها، فهل ستعتبر أنها تضرب نفوذها في المنطقة والعالم، وتعيق مسار عودة التفاوض بينها وبين إيران، وماذا ستكون ردة فعلها لا سيما بعد دعوة الرئيس جو بايدن الدول الديموقراطية الى إطلاق مبادرة في وجه “الحزام والطريق” تساعد مَن هم فعلاً بحاجة للمساعدة من دول العالم؟ وهل سنكون أمام معادلة جديدة هي إيران – الصين – روسيا، معادلة قد تخرج أميركا من العديد من الملفات في المنطقة؟.
هناك واقع جديد يفرض نفسه بقوة، وما قبل الإتفاقية الاستراتيجية بين طهران وبكين ليس كما بعدها، والموقف التفاوضي لطهران أصبح أقوى، وأيضاً إن إنخراط الإيرانيين في استراتيجية الصين لربط القارات والموانئ سيعطي نفوذاً على حساب الأميركيين.
إنها خطوة هامة وواعدة، ولكن لسنا أمام هزيمة أميركية شاملة، وإنما تبدّل في شروط الصراع وفي مصادر القوة، وهي فرصة إنتزعتها الصين وصار الثمن أفدح بالنسبة للأميركيين، أما إذا بدّلت واشنطن في نمط سياستها تجاه كل من الصين وطهران ربما يفتح آفاق لمسار جديد لحل التوتر بين واشنطن وبكين، ويسهل العودة الأميركية الى الإتفاق النووي مع طهران.