قبل انحلاله كان يشكل الاتحاد السوفياتي احد قطبي النظام العالمي القائم و ينافس الولايات المتحدة متزعمة ما يسمى “العالم الحر الرأسمالي” في اكثر من مجال سياسي وعسكري، لكنه لم يستطع المنافسة الاقتصادية لأكثر من اعتبار وكان الاقتصاد نقطة ضعف ووهن هذا الاتحاد وحلفاءه رغم انه كان متعايشا معها يؤمن احتياجاته بدون أن يؤثر ذلك على قراراته الاستراتيجية وخططه في اطار الحرب الباردة التي كانت ناشبة بينه وبين الحلف الأطلسي ودوله.
بيد أن تفكك الاتحاد السوفياتي جعل دوله فئتين: فئة الدول التي سارعت للالتحاق بالغرب ضمن نظام التبعية التي تمتهن أميركا ممارستها مع من تتعامل معه، وفئة الدول الممتنعة عن السير في ركب الغرب الباحثة عن نوع من استقلال لها مع بناء علاقات إقليمية غير مستقرة وبقيت روسيا تنظر حولها وتتطلع إلى المجد الغابر وهي تجد نفسها تتراجع من دولة عظمى إلى دولة داخلية تفتقد أي نفوذ دولي فاعل رغم بقاء حق الفيتو في مجلس الأمن بيدها بعد أن ورثته من الاتحاد السوفياتي المنحل.
عانت روسيا لعقدين من الزمن من العزلة والتهميش لا بل الحصار الذي تمارسه أميركا التي تنطحت لقيادة العالم وإقامة الأحادية القطبية التي تمنع أي قوى دولية من منازعتها النفوذ أو مشاركتها العمل في أي منطقة من العالم، حتى ظن البعض أن القرار الروسي بات هو الآخر أيضاً يصنع في واشنطن وليس لروسيا القدرة على الممانعة والاعتراض، لكن الأمر لم يطل على هذا النحو، حيث كانت الحرب الكونية على سورية، وفتحت الأبواب أمام روسيا لتبدأ رحلة العودة إلى المسرح الدولي، وبالفعل دخلت روسيا في “مغامرة هذه العودة” لكن بحذر شديد، نفذت خلاله خطوات محسوبة بدقة بالغة حرصت خلالها على عدم الأثارة والاستفزاز لأي طرف إقليمي أو دولي خاصة الولايات المتحدة الأميركية لا بل أنها سكتت عن الاستفزاز والتحدي والاعتداء عليها حتى لا تفسد خطة عودتها إلى المشهد الدولي، وحرصت على إقامة علاقة ذات خصوصية مع كل من ايران وتركيا و”إسرائيل” اعتقاداً منها أن النجاح في الشرق الأوسط يستوجب عدم استعداء هذه الدول والكيانات بأي وجه من الوجوه.
تدرجت روسيا في عودتها إلى المسرح الدولي من الباب السوري لأول مرة باستعمال الفيتو في خريف العام 2011 ضد مشروع قرار أعد في مجلس الأمن ليكرر التجربة الليبية في سورية، ويدمر سورية ويسقط نظامها كما فعل مع معمر القذافي وشتت ليبيا وشعبها أجزاء وشظايا، وكان النجاح الروسي الأول لاستعمال حق كاد أن ينسى لها في مجلس الأمن، ولما لم تواجهها أميركا بقسوة تمنعها من التكرار، استعملت الفيتو مرة تلو مرة ضد مشاريع قرارات تعني سورية في العام 2012 وما بعدها.
وكان الاعتراف الأميركي الأول بدور روسي في سورية في أب العام 2013 من باب معالجة المخزون من الأسلحة الكيماوية التي كادت أن تسبب عدوانا أطلسيا مباشرا على سورية بعد المسرحية والتلفيق الذي قام به الأطلسي ليبرر العدوان.
وتابعت روسيا “تسللها” إلى المنطقة رغم أنها استمرت في تجميد توريد الأسلحة والذخائر إلى الجيش العربي السوري عملاً بقرارات دولية ظالمة حرمت الجيش من الحصول على ما دفع ثمنه من السلاح، لكن الصمود السوري وانتقال سورية إلى استراتيجية تطهير الأرض من الإرهاب بعد أن تأكد نهائياً استحالة سقوط الدولة، أغرى روسيا بالاستجابة إلى الطلب السوري المدعوم إيرانياً بالدخول العسكري إلى سورية وتقديم المساعدة لجيشها لمحاربة الإرهاب الذي تعرف روسيا أن انتصاره في سورية سيكون له ارتدادات سلبية بالغة على الأمن القومي الروسي عملاً بقاعدة “أمن موسكو يحفظ عند أسوار دمشق” وهكذا كان خريف 2015 موعداً لإنطلاق العمل العسكري الروسي الميداني ضد الإرهاب في سياق عمل وضعت له موسكو 4 ضوابط: أولها أن يكون بالتنسيق الكامل مع الجيش العربي السوري مع مراعاة تامة للسيادة السورية، وثانيها أن يكون محصورا بقتال الإرهابيين فقط، وثالثها التنسيق السلبي أي منع الاحتكاك أو الصدام بالقوى العاملة في الإقليم بما في ذلك أميركا وحلفائها خاصة تركيا و”إسرائيل”، ورابعها التنسيق الإيجابي وبالقدر المتاح مع أهم دولتين إقليميتين تعملان في الميدان السوري مع وضد النظام القائم وهنا ايران وتركيا.
بعد 3 سنوات من العمل العسكري المبرمج والمنفذ في معرض الدفاع الناشط عن الدولة السورية، استطاعت سورية هزيمة أرباب الحرب الكونية عليها ودخلت منطقة الأمان الميداني والسياسي على وحدتها وسيادتها رغم أن الحرب لم تضع أوزراها كليا وبقي هناك نتوءات تستلزم المعالجة لإنهاء وضعهما الشاذ في الشمال والشمال الغربي بوجه تركيا وإرهابيها وفي الشمال الشرقي بوجه أميركا ومرتزقتها في “قسد”.
هنا اعتبرت روسيا النصر السوري نصراً لها يمكنها من متابعة السير بخطى ثابتة على طريق العودة إلى الصف الأول من دول العالم باعتبارها احد الأقطاب الرئيسيين في تشكل نظام عالمي جديد قائم على التعددية، ولذلك رأينا روسيا لا تضيع الوقت، بل تعمل باستراتيجية الانفتاح على كامل منطقة غربي أسيا وشمال أفريقيا، أي معظم العالم العربي لتطلع على ملفاتها وتحجز لنفسها مقعدا في مجموعة المعنيين بتلك الملفات، وبهذا نفهم السعي الروسي لإقامة علاقات متطورة في الإقليم، فبالإضافة إلى سورية وهي القاعدة الأساس والمدخل الرئيسي للعمل الروسي في المنطقة، فإنها تحفظ علاقاتها المميزة مع “إسرائيل”، وعلاقات مسيطر عليها مع تركيا، وعلاقات تفاعلية مع ايران، ثم تضيف إلى ما سبق علاقات تريد تطويرها مع الدول العربية في الخليج بدءا من الإمارات والسعودية وصولاً إلى قطر وتضع على اللائحة الكويت مع البحرين. حيث تريد علاقات خليجية غير تنافسية مع أميركا (التنافس ليس في مصلحتها) علاقات تدخلها إلى الملفات التي تهم تلك الدول وتجعلها في موقع الجاهز للمساعدة فيها دون الطموح إلى الاستئثار الكامل بها كما تفعل أميركا.
تريد روسيا من حركتها الإقليمية المفعلة حاليا، حضوراً أوسع في المنطقة وأن تخرج من حال الوجود اليتيم في روسيا لتقدم نفسها دولة عالمية تهتم بكل ملفات الإقليمية، دون أن تعد بحلول أو ترشي بمساعدات أو تهدد باستعمال القوة العسكرية للسيطرة، بل تتخذ من الدبلوماسية المتكئة على القوة العسكرية المعدة لمحاربة الإرهاب حصرا، سبيلاً لبلوغ أهدافها، ولذلك لا يمكن أن ينتظر عاقل من روسيا أن تحل مكان الأخرين في تقديم حلول لأزمات المنطقة بل على الجميع أن يدرك بأن استراتيجية العمل الروسي القائم حالياً يرمي إلى:
1) الإنفتاح على الدول والقوى الفاعلة في كامل الإقليم بما فيها الأحزاب ذات القدرات الهامة (من هنا كانت جولة لافروف الخليجية ودعوة ”حزب الله” إلى موسكو)
2) تجنب العداء مع أي من دول الإقليم أو حتى القوى الدولية وتعبئة الفراغ الذي يتركه الأخر دون العمل على دفعه عن موقعه.
3) تلمس ملفات أزمات المنطقة دون التسرع بالوعد بحلها، بل المشاركة بإدارتها مع الأخرين بما يقود إلى حل يحفظ مصالح روسيا الآنية والمستقبلية ولا يهدر مصالح الأقربين لها.
4) تثبيت الإنجازات في سورية ومعالجة ما تبقى بالسياسة إذا أمكن بشكل يوفر عليها العمل العسكري والاحتكام بالأخرين. (يعتبر هذا الأمر أولوية روسية الأن).
5) الاستفادة من الضغط الاقتصادي الصيني، والصراع الأميركي الصيني من هذا الباب بما يفسح لها مجالاً أوسع في الحركة كما ذكرنا أعلاه خاصة وأنها تعمل على تنمية اقتصادها لملامسة الاكتفاء الذاتي في أكثر من باب (بعد أن كانت تستورد معظم استهلاكها من القمح باتت منتجة ومصدرة له وأن بكميات خجولة).