اذا استمر الوضع على ما هو عليه اليوم، سنقترب بسرعة من درجة متقدّمة في التضخّم المفرط، وقد نشهد ولادة الليرة الجديدة في عملية قيصرية مُبكرة قبل اكتمال الظروف المناسبة، بما يهدّد حياة المولود الجديد، ويُدخلنا في حلقة مُفرغة من حذف الأصفار.
لم يكن مشهد اقتحام سوبرماركت وتحطيم المحتويات، أو مشهد التقاتل من أجل كيس حليب مجفّف او قنينة زيت مدعوم، من المشاهد المألوفة لدى اللبناني. لكن، من يراجع التطورات في دول واجهت أزمات مالية شبيهة بالأزمة التي نواجهها، يدرك انّ هذه المشاهد النافرة مألوفة، من حيث انّها تتكرّر وكأنّها تُستنسخ في كل دولة يعاني شعبها الظلم الاجتماعي الذي يعانيه اللبناني اليوم. دائماً تبدأ النقمة ضدّ المصرف وتتعرّض المصارف الى التحطيم والحرق، حيث يصبّ الفقراء الجدد غضبهم على المصرف كمرحلة أولى. ثم ينتقل الغضب الى مراكز بيع المواد الغذائية، لأنّ اهتمامات الناس تتركّز لاحقاً على تأمين الغذاء، بعد أن يفقدوا الأمل باستعادة مقومات العيش الرغيد ومتفرعاته. وفي مرحلة ثالثة يرتفع منسوب النهب والسرقة والاعتداءات على المحلات والناس، اذ تحلّ الحاجة القصوى مكان الغضب. وبالتالي، يصبح الهدف من اقتحام سوبرماركت السرقة لتأمين لقمة العيش، وليس مجرد فشة خلق…
في موازاة هذا السيناريو الذي يتكرّر في دول تعاني انهيارات مالية مصحوبة بعجز وفساد سياسي، يحول دون وقف الانهيار عند قعر مقبول، هناك مشهد آخر مُتكرّر يرتبط بدور رجل الأمن في أزمات من هذا النوع. هذا المشهد هو حصري للدول غير الديمقراطية. في هذه الدول يُستخدم رجل الأمن للقمع. وبما أنّ العسكر مثل سواه من الناس، يمكن أن يجوع وبالتالي، يصعب استخدامه في قمع الجائعين، تلجأ السلطات الى منح العسكريين امتيازات معيشية تسمح بضمان الولاء.
يروي ديبلوماسي لبناني معتمد في كاراكاس، انّ القيادات العسكرية في فنزويلا تتمتع بمميزات استثنائية منحها ايّاها الرئيس نيكولاس مادورو، تسمح للضباط الكبار بمداخيل مرتفعة وكافية لعيش رغيد، في حين انّ العسكريين يحصلون بدورهم على امتيازات معيشية، تقيهم العوز الذي يعانيه الشعب الفنزويلي. في لبنان، يعتقد البعض، ورغم الانتخابات، انّ العامل الطائفي يجعل النتائج أقرب الى التوتاليتارية الطائفية منها الى نتائج ديمقراطية. هذا الواقع سبّب النقزة، عندما جرى اقتراح تقديم مليون ليرة شهرياً للعسكريين، رغم النية الحسنة وراء الاقتراح، لأنّ أخطر ما يمكن ان يواجهه مجتمع، هو التمييز المعيشي بين مدني وعسكري في أزمة تُنهك الجميع.
خارج سياق المشاهد الحياتية القاسية التي سيشهدها البلد في الأشهر المقبلة، هناك اجراءات قد تضطر الى اتخاذها السلطات، من ضمنها رفع الاجور، شطب أصفار من العملة، أو استحداث عملة جديدة، أو حتى التخلّي عن الليرة وحصر التعامل بالعملات الاجنبية، وتحديداً بالدولار…
كل هذه الاجراءات ستكون مطروحة وفق التجارب التي واجهتها دول أخرى. لكن شطب أصفار من الليرة تحت مُسمّى الليرة الجديدة وفق ما يُعرف اقتصادياً بـ Redenomination ، أو حتى تغيير الإسم بالكامل من خلال ابتكار اسم جديد (وانة على سبيل المثال، وهي مشتقة من كلمة ارجوانة تيمناً بالتراث الفينيقي)، لن يقدّم أو يؤخّر اذا لم يأت ضمن خطة انقاذية شاملة. وهنا أيضاً نستحضر تجارب الدول لاستشفاف ما قد يجري.
في العادة، وفي حالات التضخّم المفرط (hyperinflation)، يتمّ اللجوء الى شطب الاصفار، واستحداث عملات جديدة. وظيفة هذا الإجراء الأولى نفسية، حيث يُفترض ان تريح المتعامل، وتوهمه بأنّ سعر صرف عملته أصبح أفضل. الوظيفة الثانية، تحقيق وفرٍ في عملية طباعة العملة، حيث انّ كلفة الطباعة تتجاوز أحياناً قيمة الورقة النقدية نفسها. الوظيفة الثالثة، تسهيل العمليات المحاسبية.
مع ذلك، نلاحظ انّ هذا الاجراء ينجح في دول ويفشل في دول أخرى. وفي التاريخ الحديث، أي من العام 1960 حتى اليوم، هناك 19 دولة حذفت أصفاراً من عملتها، بعضها مرات عدة، مثل البرازيل 6 مرات، يوغوسلافيا 5 مرات، الارجنتين 4 مرات، بلجيكا، روسيا، بولندا واوكرانيا 3 مرات، بوليفيا واسرائيل لمرتين، ومرة واحدة في كل من كوريا، ايسلندا، غانا، وتركيا.
لا حاجة الى التأكيد انّ معيار النجاح والفشل يرتبط بالظرف الذي تتمّ فيه عملية إطلاق العملات الجديدة. في اسرائيل مثلاً، استُحدث الشيكل الجديد (new shekel) في العام 1985، ضمن خطة إنقاذ شاملة أخرجت البلد من أزمة مالية واقتصادية خانقة، قبيل الانهيار الكبير الذي كان متوقعاً فيما لو لم تُقرّ ويبدأ تنفيذ الخطة. لذلك نجح الشيكل الجديد الذي كان يساوي 1000 شيكل قديم، وانتهت المشكلة. لكن، قبل ذلك، حاولت اسرائيل معالجة الأزمة على الطريقة اللبنانية، اذ انتقلت من «الليرة الاسرائيلية» التي كانت مُعتمدة الى الشيكل بسبب التضخّم، من دون خطة إنقاذ، وقد حذفت صفراً من العملة القديمة بلا نتيجة.
هذه التجربة لم تنجح مثلاً، ورغم تكرارها مرات عدة في هنغاريا، حيث كانت الدولة تستخدم عملة كورونا korona، وبسبب الانهيار المالي والتضخّم استحدثت عملتها الجديدة بينغو pengo، ولاحقاً وبسبب استمرار الانهيار استحدثت عملتها الحالية فورينت forint، ولا يمكن التكهُّن بإسم العملة الهنغارية بعد سنوات، اذا استمر فخ التضخم المفرط قائماً.
في لبنان، واذا استمرت الغيبوبة القائمة، واذا استمر اسلوب معالجة حرارة المريض المرتفعة عبر تحطيم ميزان الحرارة لإخفاء النتيجة، قد نضطر الى تغيير العملة مراتٍ عدة، والى رفع الاجور مراتٍ عدة أيضاً، وربما رفع تسعيرة المنّصة لسحب الودائع الدولارية بالليرة، لكننا سنبقى في دوامة الحلقة المفرغة التي ستواصل ابتلاع ما تبقّى من مقومات الوقوف مجددا في المستقبل.
المصدر: “الجمهورية” – أنطوان فرح
**