يكثر الحديث عن الفساد في الآونة الأخيرة بين البرامج الإعلامية ووسائل التواصل الإجتماعي. ومن أطرف الطرق التي يتوسلها المنظرين ضد الفساد هي إطلاق الإشاعات وتوجيه أصابع الاتهام من كل حدب وصوب، ومن دون تقديم في أغلب الأحيان أي أدلة دامغة تثبت صحة أقوالهم وادعاءاتهم.
لقد رافقت هذه الظاهرة ثقافة اللبنانيين من أجل تبرير الأزمات التي كانت تعترض البلاد، وإلقاء اللوم دائماً على الطبقة السياسية وحدها، كونها عفنة وفاسدةٌ في الأساس، والتي شملها شعار ساحات ثورة ١٧ تشرين “كلن يعني كلن” دون أن يكون هنالك نسبية في تحميل المسؤولية وفقاً لتفاوت الأدوار والصلاحيات فيما بينها، أو حتى انتظار كلمة الفصل لدى المرجعيات القضائية المختصة.
ولكن أوليس هناك من مسؤولية تقع على الشعب في تفشي ظاهرة الفساد في لبنان؟ وهل يمكن التنكر للحقيقة في أن الشعب هو البيئة الحاضنة للفساد، عن دراية أو عن غير معرفة، بدءاً بتبعيته العمياء لأحزاب السلطة أو من خلال إيصال الأزلام إلى الندوة البرلمانية، إذ أن الإقتراع في الانتخابات النيابية لا ينطلق من برنامج سياسي او تقييم المرشح بحد ذاته من قِبل الناخب اللبناني، بل بمقدار ارتهانه للزعيم والقائد المفدىّ وبدرجة التصاقه بالخط الذي يمثل الإنتماء الفئوي للائحة المرشحين، وبالتالي لا تقييم للسيرة الذاتية للمرشح بل أن الأهمية تنصب على الشعارات وعلى الأموال التي يدفعها أو العقارات التي يتنازل عنها لرئيس اللائحة، والتي هي بمضمونها شراء لمقعد نيابي يجني منه صاحبه أضعاف أثمانه بين ليلة وضحاها من جاه ونفوذ وغنى، وإن كان على حساب هيبة الدولة والخزينة العامة.
أما أولئك الذين لا يمارسون حقهم بالتصويت إنطلاقاً من اعتراضاتهم الفايسبوكية والتويترية، فهم شهود زور على إيصال الدجالين والمارقين والفاسدين إلى الندوة البرلمانية نتيجة حجب أصواتهم عن مَن هو أفضل. أما الحديث عن المحادل الانتخابية فيتحمل فساد عملها الناخب اللبناني لأنه هو مَن يتحرك وفق انتمائه الغرائزي المذهبي، وليس وفق برامج المرشحين ومشاريعهم الانمائية، وطبعاً يلعب القانون الانتخابي الاقصائي والتهميشي دوراً سلبياً إضافياً في هذا المجال.
أما على صعيد إنتماء المواطن إلى الدولة فحدّث ولا حرج، حيث يلجأ المواطن في غالبية المناطق إلى التعدي على الأملاك العامة دون أن ننسى “الشطارة” عند اللبناني ولجوئه إلى رشوة موظفي الدولة ودفع “الاكراميات” من أجل خفض مدفوعاته المستحقة للدولة، إن كان على صعيد مهنته والضرائب المستحقة، أو على صعيد رسوم الأملاك غير المدفوعة، وصولاً إلى كل الغرامات التي يحصل عليها المواطن، فإمّا يبرطل الموظّف المسؤول، أو يلجأ إلى مرجعيته السياسية للتدخل، وتخفيض المستحقات المتوجبة عليه. فكم من سياسي اونائب او وزير أو صاحب شأن عام، يستقبل مراجعات المواطنين لمنافع خاصة، ويحرك واسطاته مع معارفه من أصحاب القرار والنفوذ. أليس هذا فساداً؟
ان مجموع قيمة الضرائب والرسوم التي تحجب يومياً عن خزينة الدولة على صعيد الكانتونات، ألا يشكل ذلك هدراً يفوق تهريب أموال السياسيين؟ أمّا إدخال البضائع والسلع الاستهلاكية إلى الأسواق اللبنانية بفواتير مزوّرة، أو من خلال تهريب السلع المدعومة في ظل هذه الظروف القاسية ، ألا يشكّل هدراً إضافياً لمدخول المال العام؟
أمّا عدم دفع فواتير الكهرباء في مناطق لبنانية عديدة، من خلال التعليق أو التلاعب بخطوط شبكات الكهرباء، أو عدم تركيب عدّادات، أليس هذا سرقة وفساداً؟ وهذه السرقة ألا تشكّل الجزء الأكبر للعجز في ميزانية كهرباء لبنان؟ فكم من أبنية ومؤسسات ومصانع تستهلك كهرباء دون عدّادات؟ فهل الطبقة السياسية هي وحدها التي تفاقم الفساد والدين العام، أم أن المواطن شريك معها ؟ وهذا بالتأكيد ليس دفاعاً عن طبقة سياسية فاسدة، بل للإشارة أيضا إلى مسؤولية المواطن وشراكته الواضحة بمنظومة الفساد .
لو لم يكن الشعب اللبناني بكل مكوناته وفئاته بيئة حاضنة للفساد، لما ظهرت طبقة أغنياء الحرب، أو طبقة أغنياء ما بعد الطائف التي عقدت صفقات وسمسرات في ظل حكومات النفاق الوطني.
إن التلاعب بنتائج الانتخابات النيابية مثل التلاعب بالأسعار، مثل التلاعب بالفواتير، مثل التهرّب من الرسوم والضرائب كلها تصب في خانة الفساد والشعب اللبناني بغالبيته مشارك أساسي مع السلطة الحاكمة في هذا المضمار، وهو يتغاضى عن محاسبة السياسيين الفاسدين لأنهم يغطون له فساده اليومي في مجريات حياته، لأنه يبحث دائماً عن سند له في وطن لا توجد فيه دولة تُراقِب وتُراقَب؛ تُحَاسِب وتُحَاسَب.
لا بد لثقافة تغييرية جديدة أن تسود على البيئة اللبنانية، ثقافة مفهوم الدولة العادلة، ومفهوم العمل الاجتماعي و الحزبي السليم، ومفهوم العمل السياسي الأخلاقي، وهذا لن يتحقق على الإطلاق إذا بقي المواطن اللبناني يلجأ إلى شرنقته الضيقة، ومن يحميه في فساده، عوض القيام بواجباته قبل ان يطالب الدولة بحقوقه ويعترف بوجودها.