عانى لبنان منذ نشوئه أزمات وحروب وحوادث كثيرة وكاد بعضها ان يؤدي بكيانه وبصيغة التعددية والتنوع فيه. إذ ان سرعة ترابط الأزمات الداخلية وتشابكها مع الأزمات الخارجية سرعان ما تظهر في تباين المواقف الداخلية تجاه بعض القضايا الخارجية وانعكاس ذلك على المستويين السياسي والأمني. عند كل أزمة داخلية او منعطف خطير تبادر القوى السياسية والمرجعيات الدينية والنخب الوطنية والشخصيات الاكاديمية إلى المبادرة بطرح مشاريع حلولٍ، فمنهم من يعتبر أن الصيغة الطائفيَّة للنظام هي نقطة ضعفه، فاقترح العلمنة بديلًا، ومنهم من رأى في التوزيع الديموغرافي للسكان بعد سلسلة عمليات النزوح، سببًا وحجة يستحيل معها تعديل صيغة 1943، واقترح الفيدراليَّة حلًا، ومنهم من ذهب إلى أبعد من ذلك وطرح الكونفدراليّة منفذاً، ومنهم من يطالب باستحداث مجلس الشيوخ وإلغاء الطائفية السياسية ومنهم من يعتقد بضرورة عدم الانخراط في سياسة المحاور الإقليمية والدولية، ورأى الحياد بين تلك المحاور دواءً، ومنهم من رأى أن التدخُّلات الخارجيّة في سلسلة مراحل الأزمة اللبنانيّة عنصر أساسي في تأجيجها، ورأى في تدويل الأزمة علاجًا، ومنهم من جمع بين عدّة أسبابٍ وأظهر الصراع مع إسرائيل عنوانًا لمشاكل لبنان، وطرح نظام الحياد لخلاص لبنان ممَّا يتخبّط فيه.
يشكل مبدأ الحياد أحد المفاهيم المعقّـدة في القانون الدولي العام، فلأول مرة، تضمّنت اتفاقيات 18 تشرين الأول 1907، التي وقّـعت في مؤتمر لاهاي الثاني، نصوصًا تحدِّد حقوق الدول المحايدة والتزاماتها، وينصّ أحد بنود تلك الاتفاقية، على أنه لا يحق لدولة محايدة المشاركة المباشرة في نزاع مسلح أو مساعدة أحد الأطراف في النزاع من خلال تزويده بالرجال والسلاح، ويجمع الخبراء في القانون الدولي العام، وحتى المدافعون عن نظام الحياد فيه، على ضرورة توافر شروط ثلاثةٍ على الأقل، لإمكانية تطبيقه في لبنان، وهي: موافقة غالبيَّة اللبنانيِّين عليه، وموافقة الدول المجاورة له، وقدرة لبنان على حماية حياده بنفسه.
إنَّ قراءة دقيقة لمواقف الفئات اللبنانيّة بشكل عام، لجهة تقبلهم لما يفرضه نظام الحياد من واجبات، تظهر عدم توفر الحد الأدنى لهذا القبول؛ فضلا عن ان الدول المعنية مباشرة بحياد لبنان وتحديدا ايران وسوريا
إضافةً إلى بعض الدول الكبرى المؤثرة في صناعة القرار السياسي اللبناني إلى جانب دول إقليمية طامحة إلى الاضطلاع بأدوارٍ خارجيّة؛ كل ذلك يجعل
من حياد لبنان، يعتبر أمرًا حساسًا ودقيقًا بالنسبة لهؤلاء جميعا لما يمثله لبنان من موقع إستراتيجي هام وكجار لفلسطين المحتلة؛ وفي ظل وجود “اسرائيل” وأطماعها في لبنان، و أهدافها الإستراتيجية بالتوسُّع على حساب لبنان واستغلال مياهه.
أمّا لجهة قدرة لبنان على حماية حياده بنفسه؛ فهذه مسألة تبدو صعبة ان لم تكن مستحيلة ذلك أن نظام الحياد يُلزم الدولة التي تتبنَّاه أن لا تقيم أي تحالفات سياسية أو عسكرية مع غيرها من الدول، ولكنه في الوقت نفسه يجبر الدولة بشكل غير مباشر، على تنمية قدراتها العسكريَّة للدفاع عن نفسها في حال تعرضت للخطر، أو لأي عملٍ أو فعلٍ يمسُّ حيادها، فهل يمكن للبنان حماية حياده بنفسه! ؟
في الواقع يتميز لبنان بإمكاناته المحدودة التي انعكست سلبًا على قوَّته العسكريَّة، مما دفع هذا الوضع ببعض المسؤولين اللبنانيِّين، في وقت من الأوقات، إلى رفع شعار “قوة لبنان في ضعفه”، محاولين بذلك الابتعاد قدر الإمكان عن تبنِّي خطط عملية لتطوير قدراته العسكريَّة. وفي ظلِّ هذا التغاضي، كان العدوان الإسرائيلي يتكرر على أرضه وشعبه، وفي المقابل لم يستطع لبنان أن يقوم بأي ردة فعل عسكرية مجدية ضد هذا العدو القوي، واقتصر رده على النشاط الديبلوماسي لإيقاف الإعتداءات عليه قبل ظهور المقاومة المسلحة، فهل إن نظام الحياد سيدفع بالمسؤوليين اللبنانيِّين إلى تغيير سلوكهم باتجاهٍ عمليٍّ وجدّيّ لتطوير القدرات العسكريَّة لبلدهم؟
إنَّ شكوكًا كثيرةً يمكن أن تحيط بتلك التساؤلات، لاعتباراتٍ كثيرة. فالتجارب السابقة في هذا المجال لجهة تنمية القدرات العسكريَّة، لا تزال ماثله في الأذهان، كما إنَّ الأخطار التي تواجه لبنان من قبل “إسرائيل” تفوق قدرته. فمن المعروف عمليًّا، أنَّ التفوُّق الإسرائيلي في مجال الدفاع وما يتعلَّق به، يفوق بأضعافٍ مكررةٍ قُدرات بعض الدول العربيَّة مجتمعة، فكيف سيكون موقع لبنان أمام القوة الإسرائيلية منفردًا، لذلك فإن قدرة لبنان على الدفاع عن حياده أمرٌ شبه مستحيل، إذ يتطلَّب قدراتٍ عسكرية وديبلوماسية هائلة، لا طاقة له عليها في مطلق الأحوال.
لقد لجأ البطريرك الراعي في معرض دعم مشروعه القائم على الحياد الى طرح فكرة الاستعانة بالضمانات الدولية لحماية هذا الحياد، وذلك عبر اتِّفاقياتٍ مع المجتمع الدولي، على غرار ما فعلت سويسرا ، وعلى الرغم من أنَّ الحياد في الدرجة الأولى قرار داخلي يستلزم موافقة مختلف الشرائح اللبنانية ، يتم بعدها عقد اتِّفاقيات دوليَّة لضمانه من قبل المجتمع الدولي، ، فهل المجتمع الدولي يتفق ويوافق حقًا على حياد لبنان ؟ وهل ان الضمانات الدوليَّة يمكن أن تتوفر بيُسرٍ وسهولةٍ وبشكلٍ مستمر؟
إنّ متابعة السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط، تظهر أنَّ لبنان فقد أهميتَّه الإستراتجيَّة في المنطقة بالنسبة إلى واشنطن، ولم يعد على قائمة أولوياتها المرتبطة بمصالحها الإقليميَّة سوى موضوع المقاومة الذي يشكل الهاجس الأكبر لدى حليفتها “اسرائيل”.
هناك حقيقة يجب أن لا تغيب عند طرح موضوع الحياد وهي الوجود الفلسطيني في لبنان والتمسك بحق العودة؛ كما أن إمكانيّات لبنان الدفاعيّة لم ترتق الى مستوى يؤهلها تأمين حياده بنفسه وحمايته، إضافة إلى عدم موافقة دول الجوار الجغرافيِّ، وتعذُّر استطلاع رأي اللبنانيِّين، إضافة الى صعوبة توافر الضمانات الدوليَّة بشكل كامل ومستمر. وبذلك، فإنَّ الشروط سالفة الذكر التي يجب توفّرها على الأقلّ لنجاح نظام الحياد، ليست بمتناول لبنان، وليس من السهولة بمكان الوصول إليها، بل إنَّ بعضها يمكن أن يوقع لبنان بأزماتٍ أخرى لا تقلُّ خطورةً عن المشاكل التي يعاني منها اليوم. رياح الإقليم قد لا تكون تماماً مواتية “لحياد” بكركي ، والفارق كبير جداً بين ما كان عليه لبنان عام 1982 (الاجتياح الإسرائيلي للبنان) واليوم ؛فعندما كان لبنان تجتاح أراضيه من العدو الإسرائيلي ويهددون كيانه الوجودي، كانت المقاومة لهم بالمرصاد، اختار المقاومون ان يتنازلوا عن كل ملذات الحياة لينضموا الى قافلة شهداء حتى صنعوا تاريخ لبنان. من قرر ان يقاوم ليحمي شعبه وامته وأرضه، إنه مواطن غير محايد ضحى بنفسه في سبيل غيره، انه من رسم سلفًا مستقبله ورأى موته بأم العين، إنه الشهيد، شهيد لتبقى رايات العز والكرامة خفاقة فوق فلسطين وسوريا والعراق ولبنان. لقد اصبح واقع الحال اليوم مضحك مبكي، فالشهيد حي في جنات الله، ونحن نكاد نصبح شهداء في وطن يتباكون فيه على اوجاع الناس ويهاجمون آخر معاقل الدفاع عن الأرض والعرض والكرامة الإنسانية.
**