الدعم الذي يتمّ الحديث عنه في الإعلام ليس بدعم بالمعنى الاقتصادي، بل هو عملية تأمين الدولارات على السعر الرسمي ( أي 1500 ليرة لبنانية للدولار الواحد) أو على سعر المنصة الإلكترونية (أي بحدود 3900 ليرة لبنانية) من قبل مصرف لبنان. هذه الدولارات تأتي من احتياطات مصرف لبنان بالتحديد. في حين أن الدعم في الاقتصاد هو عبارة عن مُساهمة الدولة من الخزينة العامة، وبواسطة بند في الموازنة، يتمّ من خلالها دعم مواد استهلاكية عادة لأسباب اجتماعية.
منذ العام 1997 ومصرف لبنان يؤمّن الدولارات في السوق على سعر الصرف الرسمي الذي تمّ تحديده ضمن هامش (عملاً بمبدأ السوق الحرّ) بين 1501 و1515 ليرة لكل دولار أميركي. هذه الدولارات كان يتمّ استخدامها في الاستيراد بالدرجة الأولى، وبالتالي كلما ارتفع حجم الاستيراد كلما زاد الضغط على سعر الصرف الرسمي لليرة اللبنانية. هذا الاستنتاج آت من مبدأ أن سعر الصرف لا يُستخدم إلا عندما تكون هناك حاجة لشراء سلع من الخارج أو لتحويل أموال بهدف الاستثمار في الخارج. الجدير ذكره أن الضغط على الليرة اللبنانية ارتفع بشكلٍ ملحوظ بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب التي تمّ استخدامها بشكلٍ أساسي في الاستهلاك المُستورد.
هذا الأمر استمرّ حتى شهر أيلول من العام 2019 حيث كان فرض العقوبات على جمّال تراست بنك باكورة التضييق على تدفق الدولارات إلى لبنان، وبالتالي أصبح هناك سوق سوداء. بل أصعب من ذلك، أخذت المصارف المراسلة وتحت تأثير الضغوطات الأميركية بعرقلة فتح اعتمادات شراء المحروقات والفيول، بحجّة أن المحروقات يتمّ تهريبها إلى سوريا خلافاً لقانون قيصر.
في الأشهر التي تلت بدء ثورة تشرين، استمر مصرف لبنان في تأمين الدولارات على سعر الصرف الرسمي، إلا أن إعلان وقف دفع سندات اليوروبوندز دفع مصرف لبنان، وبناءً على طلب من حكومة دياب، إلى حصر تأمين الدولارات ببعض القطاعات، وأطلقت على هذا الأمر اسم «الدعم».
مصرف لبنان والعقوبات الأميركية
أرقام الاستيراد الرسمية تُشير إلى أن حجم استيراد المحروقات ما زال مُرتفعًا نسبة إلى بلد أقفل بشكل عام لمدّة تزيد على ثلاثة أشهر في أقلّ من عام. الأميركيون يعلمون أن هذا التهريب هو تهريب تجّار وليس تهريب دولة، وبالتالي هذا الأمر سيدفع الإدارة الأميركية إلى الضغط على المصرف المركزي للعمل على التقييد على هؤلاء التجار، أو الضغط على الحكومة لأخذ الإجراءات اللازمة لوقف التهريب الفاقع.
وهذا الأمر قد يدفع الإدارة الأميركية في حال عدم التجاوب إلى تهديد الدولة اللبنانية عبر المصرف المركزي، بإجراءات قاسية قد يكون أحدها إخضاعها لقانون قيصر. وهذا الأمر إن حصل، يعني أن سعر صرف الدولار قد يتخطّى العقل والمنطق، كما هو الحال في فنزويلا أو غيرها من الدول الخاضعة للعقوبات الأميركية.
على هذا الصعيد، أشارت مصادر أميركية الى أن لجنة الخارجية في الكونغرس في صدد تحضير مشروع قانون «قيصر 2» جديد، وهو عبارة عن تعديلات لسدّ الثغر القانونية الموجودة في قانون قيصر، بالإضافة إلى التشدّد في بعض القطاعات وآليات تطبيق العقوبات. وتُشير هذه المصادر إلى أن مشروع القانون أصبح جاهزا، وسيتمّ قريبا إرساله إلى الهيئة العامة لإقراره.
إذًا ومما تقدّم، الاستمرار في الدعم بالطريقة الحالية سيجعل مصرف لبنان عرضة لعقوبات، إذا ما اعتبرت الولايات المتحدة أنه يساعد مباشرة النظام السوري ويخرق قيصر. ولكن هنالك بعض المؤشرات التي ترتدي طابعين متضادين، اللقاء السعودي – الأميركي، والتصريح السعودي بمساعدة لبنان، فهل هو في تحمل الحالة الفينزولية أم منعها؟
وبالحديث عن العقوبات، تُرجّح مصادر مُطلعة أن يتمّ وضع إحدى الشخصيات الحكومية البارزة على لائحة العقوبات عملاً بقانون قيصر، مُشيرة إلى أن وضع اسم هذه الشخصية على لائحة العقوبات سيُشكّل خضّة قوية للمشهد السياسي اللبناني.
قرض البنك الدولي
البنك الدولي من جهته، وعلما منه أن الوضع الإجتماعي قد يسوء بنسبة كبيرة في حال أوقف مصرف لبنان تأمين الدولارات على السعر الرسمي وسعر المنصة الإلكترونية، قام بطرح مشروع تبنّته وزارة الإقتصاد والتجارة، وينص على دفع مبالغ مالية بالليرة اللبنانية للعائلات الأكثر حاجة.
هذا المشروع بالظاهر، سيحدّ من مُشكلة تفاقم الفقر (وهذا صحيح) من ناحية أن عدم تأمين الدولارات من قبل مصرف لبنان سيدفع بالتجار إلى شراء الدولار على سعر السوق السوداء، وهو ما سيرفع الأسعار بين الضعفين إلى خمسة أضعاف بشكل تلقائي. من هنا، تأتي أهمّية تأمين هذا الدعم للعائلات ذات الدخل المحدود. إلا أن هذا الأمر لن يوقف سقوط الطبقة الوسطى إلى الفقر، وبالتالي سيحدّ مشروع البنك الدولي من الفقر المُدقع، ولكن ليس من الفقر العام!
والأخطر من ذلك، بفرضية أن مصرف لبنان رفع الدعم عن المحروقات والمواد الغذائية والمواد الأولية، وبفرضية أن الدولة اللبنانية بدأت بتوزيع المُساعدات العينية على المواطنين الأكثر حاجة، فإن الأسعار سترتفع بشكل فوضوي في المرحلة الأولى لتستقر على مستويات عالية في المدى المتوسّط، دون أن ننسى الحالة اللبنانية في توزيع المساعدات على المحازبين والمحظيين وبطريقة طائفية. ومن المتوقع عندئذ أن تخف عملية التهريب في المرحلة الأولى نظرا إلى انخفاض ربحية التجّار، إلا أن الطلب على التهريب سيعود من جديد مع ارتفاع في الأسعار نظرا إلى إستحالة تأمين طريق بديل للتهريب. هذا أمر محتوم!
آلية جديدة للدعم
من هذا المُنطلق، الآلية المثالية للدعم في ظل هذه الظروف تنصّ على استمرار مصرف لبنان في تأمين الدولارات لكن بشروط:
أولا – وقف عمليات التهريب المُنظّمة من قبل مافيات التجّار، سواء للبلدان القريبة أو البعيدة؛
ثانيا – خفض حجم السلّة الغذائية المدعومة، بالإضافة إلى سلّة الأدوية المدعومة؛
ثالثا – رفع سعر المحروقات بشكل يُقلّل من نسبة الدعم وبشكلٍ يسمح للمواطن بالاستمرار في التنقل بكلفة مقبولة؛
رابعا – رفع تسعيرة الكهرباء، وذلك بهدف خفض الاستهلاك وتحسين الجباية، مع التوجّه نحو الشركة مع القطاع الخاص؛
خامسا – التشدّد في الرقابة المالية على التجّار وعلى الأسعار بهدف وقف نزف الخزينة العامّة (المحرومة من الضرائب على أرباح التجّار) ونزف احتياطات مصرف لبنان.
سادساً – وهي الأهم، أن تقوم حكومة تصريف الأعمال بأبسط قواعد الإحساس بالمسؤولية والضمير المهني والأخلاقي، فغيابها المريب لا يمكن أن يبرر أمام عناء الجماعة، وما كان ليتصور من أي عاقل. أوليس «كلكم رعاة وكلكم مسؤولون عن رعيته»؟!
في الواقع إن خفض الدعم إلى مستويات تُقارب الـ 200 مليون دولار شهريًا، هو أمر مُمكن عمليًا ويحفظ في الوقت نفسه حياة كريمة للمواطن اللبناني، بانتظار حلّ سياسي يأتي بحكومة قادرة على القيام بالإصلاحات اللازمة وإعادة الثقة إلى الاقتصاد والقطاع المصرفي وتُفاوض صندوق النقد الدولي على برنامج دعم يسمح للبنان باستعادة عافيته.
القطاع المصرفي
القطاع المصرفي الذي ينتظر إستحقاق 28 شباط القادم، يعيش أزمة وجودية تتمثل بفقدان الثقة بالنفس!
نعم هذا القول نابع من مبدأ أن العديد من المصارف غير القادرة على استيفاء شروط القرار الأساسي 154، تنتظر نهاية المدّة المُحدّدة في التعميم لمعرفة ما سيؤول إليه مصيرها. وإذا أصبح من المعروف أن هناك عشرة مصارف على الأقل قادرة على استيفاء الشروط، إلا أن هناك ما يُقارب الثلاثين مصرفا غير قادرة على استيفاء هذه الشروط، وبالتالي ماذا سيكون قرار مصرف لبنان تجاهها؟
اللجنة التي شكّلها حاكم مصرف لبنان برئاسة نائب الحاكم الثاني، ستعمد ابتداءً من الأول من شهر آذار إلى عملية تقييم دقيقة لوضع كل مصرف (بالطبع بواسطة أرقام لجنة الرقابة على المصارف)، وعليه سترفع هذه اللجنة توصياتها التي تتضمن عدة سيناريوهات إلى المجلس المركزي الذي سيتخذ قراره بخصوص كل مصرف، وهو ما سيؤدّي إلى تغيير جذري في القطاع المصرفي اللبناني.
عمليا لن تكون هناك من تداعيات على الودائع التي سيتمّ الحفاظ عليها، علماً بأنها تأتي في أولوية سُلمّ التزامات المصارف، إلا أن السؤال الأساسي يبقى عن مصير الودائع بالمطلق: متى ستتمّ إعادة الودائع إلى أصحابها؟ الجواب بالطبع لن يأتي من المصارف العاجزة اليوم عن تأمين الدولارات للمودعين، بل سيكون بعد عملية إعادة الهيكلة التي من دون أدنى شكّ سيكون للحكومة المقبلة دور أساسي في ضمان استعادة هذه الودائع.
المصدر:”الديار” – بروفسور باسم عجاقة
**