منتصف ليل هذا اليوم، يلتقي عقربا الساعة ليعلنا خط النهاية لسنة لئيمة ذاق فيها اللبنانيون كلّ المرارات، خطفت أنفاسهم الأزمات وحوّلتهم جميعاً الى أشباه أموات، آمالهم مكسورة، وأحلامهم مخطوفة، وأمانهم مفقود؛ عُراة مكشوفون بالكامل بلا مظلة أمان، خاضعون رغماً عنهم لطبقة كريهة من الحكام، قطعت عنهم الهواء، وقدمت أسوأ نموذج في تاريخ البشريّة في إدارة شؤون البلاد والعباد.
منتصف ليل هذا اليوم، ينزع اللبنانيون آخر ورقة من روزنامة السنة المشؤومة، ويستقبلون سنة جديدة، بلا فرح ولا ابتسام، ولا احتفال، بل بخوف كبير ممّا هو آت، فأيّ معنى للفرح والاحتفال طالما أنّ الغد هو امتداد للأمس بكلّ أثقاله الموروثة من السنة الراحلة؟
وأيّ معنى للفرح والاحتفال، والبلد صار عنوانه الفقر، وانعدام الأساسيات؟ والمواطن فيه مسلوب الإرادة، ومسروق تعبه وجنى عمره والمدّخرات، ولم يعد يملك لأيامه السود التي يعيشها لا قرشاً أبيض ولا أسود؟
وأيّ معنى للفرح والاحتفال، والبلد تقوده العصبيات، وشهوات حكام ضحّوا به على مذبح مصالحهم، وأضاعوا فرصة مُتاحة لتشكيل حكومة تضع البلد على سكة تغيير الحال، فحَبسوه في سجن مُحكم الاقفال:
– خلف قضبان صراع الحكام وانعدام ثقتهم ببعضهم البعض ورغبة كل منهم في قهر الآخر، ودفعه الى الرضوخ والاستسلام لمشيئة خارج الدستور والقانون وكل الاعراف.
– خلف قضبان “ثلث معطّل”، سَمّوه ثلثاً ضامناً لمصالحهم ومعزّزاً لقدرتهم على التسلّط والتحكّم بالقرار. وليس ما يضمن في المقابل للبنانيين مصيرهم، وحلمهم في أن يكملوا يومهم بسلام!
– خلف قضبان خلق أعراف جديدة تطيح كل المبادرات، أساسها الرغبة القاتلة في إرضاء بعض المحظوظين الذين حَملتهم الصدفة لأن يكونوا من الأقرباء أو المقرّبين، على حساب وطن بأسره وشعب بكامله، ولسان السجّان لا يخجل من القول: يرضى المحظوظ أولاً، ومن بعده الطوفان فحرام أن يعدّم طموحة في مقتبل عمره السياسي!
– في حقيبة وزارية باتت معتبَرة حقّاً حصريّاً ممنوع أن يُقارَب من هذا الطرف او ذاك، على ما هو الحال في الإصرار على وزارة الداخلية، فيما الداخل كلّه صار في منحنى رهيب، فارغاً وخاوياً حتى لا يكاد يَحظى بنسمةِ هواءٍ يتنفّسها! وكذلك في الاصرار على وزارة العدل، فيما العدل في البلد صار عملة نادرة، والعدالة المنشودة صارت عنواناً للثأر والانتقام! وأيضاً في الإصرار على وزارة الطاقة، فيما لا طاقة للبلد وأهله على مزيد من الاهتراء والاحتمال.
– في تَنازع الصلاحيات، وعقليّات التفرّدالمتشابكة والمتصارعة على ما يُسمّى الحقّ في تسمية الوزراء. وعلى شكليّات سَطحية جَعلوها جوهريّة بالاختلاف على شكل الحكومة بين مُصِرّ على حكومة من 18 وزيراً، ومصرّ على حكومة من 20 وزيراً فقط لإرضاء بعض الحلفاء!
سنة مُذخّرة!
على هذه الصورة تبدأ السنة الجديدة مُذخّرة بكلّ أسباب التفجير السياسي، بالتوازي مع الطامة الكبرى الكامنة في السيناريوهات السوداء التي تُنذر باقتراب البلد من واقعٍ اقتصادي ومالي واجتماعي أكثر مرارة ممّا هو عليه الآن، مرير إذا استمرّ الحال على ما هو عليه، من تَورّم واحتقان وانهيار في كلّ القطاعات، ومن استهتار مُفجع وفقدان المسؤولية والاحساس لدى طبقة الحكام.
عون: الأولوية للمعايير
في السياسة، يبدو الملف الحكومي في المنطقة الميتة؛ جمود كامل، ولا حراك نهائياً، وكلّ شيء معطّل، وكل المعنيين بهذا الملف منصرفون الى إعداد أوراقهم للنزال المقبل ما بعد العطلة. رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وعلى ما يقول المقرّبون من القصر الجمهوري، ينتظر أن يحسم الرئيس المكلّف سعد الحريري موقفه وخياره، ويأتي الى اللقاء المقبل مع رئيس الجمهورية بمقاربة جديدة لملف التأليف تُراعي كلّ المعايير التي يؤكّد عليها الرئيس عون.
ولفت هؤلاء المقرّبون، عبر “الجمهورية”، الى انّ الإصرار على المواقف نفسها، وكذلك الاصرار على تجاوز تلك المعايير، ومحاولة فرض معايير تؤدي الى خلل في التوازنات وفي التركيبة الحكومية، كل هذه الأمور لن تغيّر في واقع الحال شيئاً بالنسبة الى رئيس الجمهوريّة، الذي عَبّر من اللحظات الاولى عن رغبة كبيرة في التعاون مع الرئيس المكلّف وصولاً الى حكومة مُنتجة وفاعلة، ولو أنّ المعايير التي أكد عليها رئيس الجمهورية قد تمّت مراعاتها لما تأخّرت ولادة الحكومة حتى الآن.
وعمّا اذا كانت حرب البيانات الأخيرة بين بعبدا وبيت الوسط قد تم تجاوزها وأنّ التوافق ما زال ممكناً على تأليف الحكومة، أشار المقرّبون من القصر الجمهوري إلى أنّ الرئيس عون كان واضحاً من البداية لجهة بلوغ التفاهم على حكومة تضع البلاد على سكة الانفراج، وهو مصرّ على بلوغ هذا الهدف، وعدم تضييع الوقت في طروحات غير واقعية تحول دون تشكيل الحكومة. واللقاء الاخير بينهما عرضت فيه بعض الافكار والطروحات، تنتظر إجابة الرئيس المكلّف حيالها، وبالتالي إنّ المبادرة في يده.
الحريري: لا تبديل
أمّا في المقابل، فلا يبدو انّ ثمّة تبديلاً في موقف الرئيس المكلّف، وهذا ما تؤكده مصادر قريبة منه لـ”الجمهورية” بقولها انّ الامور ما زالت جامدة عند النقطة التي انتهى إليها اللقاء الأخير بين عون والحريري.
وأكدت المصادر انها تستبعِد أن يُبادر الرئيس المكلّف الى التراجع عن ثوابته التي اكد عليها منذ تكليفه تشكيل الحكومة لِجهة الوصول الى حكومة اختصاصيين لا سياسيين ولا حزبيين، ولن يتأثر بأيّ مداخلات أو محاولات للتشويش على توجّهاته ولقَلب الوقائع والحقائب، ولا بأيّ محاولات تسعى إلى فرض أعراف جديدة في تأليف الحكومة تتجاوز صلاحيّاته المنصوص عليها في الدستور.
وسَخرت المصادر ممّا يُشاع عن انّ الرئيس المكلّف قد يُبادِر، وسط انسداد أفق التأليف حالياً، الى الاعتذار. وقالت: كلّ ما يُشاع معروف مصدره، والغرف التي تبثّه، والرئيس المكلّف لا يلتفت الى هذه الشائعات، ولا يقف عندها لأنها بلا أي معنى. وبالتالي، هو أكد التزامه الكلّي بالمبادرة الفرنسية ومندرجاتها الانقاذية والاصلاحية، وهو على التزامه، وصولاً الى تشكيل حكومة تُنقذ لبنان وتعيد إعمار بيروت، وعلى هذا الأساس سيتابع مهمّته.
وعمّا اذا كان التواصل سيعود بين الرئيس المكلّف مع رئيس الجمهورية في الايام المقبلة، قالت المصادر: من البداية أكد الرئيس المكلف على التعاون مع رئيس الجمهورية وفق الدستور، وعلى الجميع ان يدركوا انّ تشكيل الحكومة ينبغي ان يتم في القريب العاجل، وانّ التأخير فيه ضَرر فادِح على البلد، وهذا يفترض بالدرجة الاولى الكَفّ عن وضع العصي في الدواليب، وتعطيل التأليف بشروط غير مقبولة.
وعن الثلث المعطّل، وإمكان رفع عدد الحكومة الى 20 وزيراً، قالت المصادر: موضوع حجم الحكومة قد تمّ حَسمه لناحية الذهاب الى حكومة من 18 وزيراً، والرئيس المكلّف مُصرّ على هذا الامر. أمّا ما يتعلق بالثلث المعطّل فلا مجال للقبول به على الاطلاق، لأنّه يهدف بشكل أساس الى وضع الحكومة رَهن مزاجيّة البعض، ومن شأنه أن يفشل الحكومة لا بل ينسفها قبل أن تولَد.
بري مستاء
في موازاة ذلك، تبدو الصورة في عين التينة ملبّدة بتساؤلات حول موجبات تعطيل تأليف الحكومة، بعد المناخ الايجابي الذي أُشيع قبل آخر لقاء بين الرئيسين عون والحريري.
وتعكس هذه الصورة استياءً بالغاً لدى رئيس مجلس النواب نبيه بري من بلوغ الملف الحكومي الحائط المسدود، في ظرفٍ أصبح فيه لبنان في سباق خطير مع الأزمات التي تُنذر بالتفاقم على أكثر من مستوى، وزيادة الاعباء والمصاعب على اللبنانيين.
وبحسب هذه الأجواء، فإنّ الجمود، أو بالأحرى تجميد الملف الحكومي في مدار السلبيات والتعقيدات غير المبرّرة، من أي طرف كان، يزيدان من المخاطر واحتمالاتها التي لا تحمد عقباها، فمِن غير المقبول الاستمرار على هذا المنحى، ومن غير المعقول ان يَتعطّل الكلام في التأليف وإنضاجه بالتفاهم على حكومة تُباشِر مهامها الاصلاحية والانقاذية، خصوصاً انّ الجميع قدموا التسهيلات لتحقيق هذا الهدف.
وهناك تخوّف شديد تعكسه هذه الاجواء من “أنّ استمرار الحال على ما هو عليه سيوصِل حتماً الى الكارثة الكبرى. ذلك أنّ لبنان، وسط هذا الكمّ الهائل من الأزمات التي تضربه من كل جانب، باتّ على وشك ان يفقد قدرته على البقاء والاستمرار. ولذلك، فإنّ أقلّ الإيمان والمسؤوليّة أن يُعمل على تَجنّبنها رحمةً بلبنان، وان يتنازل المؤلّفون للبنان قبل فوات الاوان”.
5 أشهر… مراوحة
الى ذلك، استبعدت مصادر سياسية مسؤولة حصول خَرق حكومي في المدى المنظور، في ظلّ الهوة الواسعة بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف، وكذلك في ظل حال الانتظار التي يفرضها البعض ربطاً باستحقاقات خارجيّة.
وقالت المصادر لـ”الجمهورية”: لبنان دخل في فراغ حكومي منذ استقالة الرئيس حسان دياب في 10 آب الماضي، وبعد أيام قليلة يتم شهره الخامس، وكلّ الأجواء المحيطة بملف التأليف تؤشّر الى استمرار هذا الفراغ ربما لـ5 أشهر أخرى، تُعزّز ذلك الطروحات التعقيدية المتبادلة بين عون والحريري، وصراعهما على حكومة يريدها كلّ منهما أن تكون انعكاساً له، وطَيّعة في يده. وتَبدّى ذلك في إحباطهما كل المساعي والمبادرات وعدم استجابتهما لكل الوساطات التي سَعت الى تقريبهما الى التفاهم على قواسم مشتركة، سواء من الجانب الفرنسي، او من بعض الأصدقاء المشتركين في الداخل، او من قبل حلفاء هذا الطرف او ذاك، او من قبل بعض الوسطاء، كالمدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم. (كان ابراهيم قد قام بزيارة الى بكركي أمس والتقى البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، حيث طمأنَ بعد اللقاء الى “انّ الأمن مضبوط، ولا أرى أنّ الأمر سيصل الى مرحلة الفلتان”. إلّا انه أشار الى “انّ الفقر كافر، لذا لا يجب أن نستغرب نزول الناس الى الشارع للمطالبة بلقمة عيشها”، مؤكداً أنّ “الأمور لن تخرج عن السيطرة”. وقال رداً على سؤال حول وساطته: “هناك دائماً أمل ورجاء، والحركة هي دائماً دليل بركة، وغبطته يقوم بالدور الأكبر في هذا الاطار، ونحن نعوّل على ما يقوم به صاحب الغبطة للوصول بالأمور الى خواتيمها السعيدة).
وجَزمت المصادر انّ الجانب الأساس من تعطيل التأليف هو ربط الحكومة بالاستحقاق الاميركي وانتقال السلطة من الادارة الاميركية الحالية الى الادارة الجديدة في الـ20 من الشهر الجاري، وهو في رأي المصادر انتظار فارغ لأنّ الاميركيين غير عابئين أصلاً بلبنان. وبالتالي، لا مكان له في أجندة الادارة الاميركية، أقلّه في المدى المنظور، والتي حدّد الرئيس الاميركي المنتخب أولويّات إدارته، بالعمل على إعادة لملمة آثار إدارة دونالد ترامب، والعمل الفوري على تحدّي وباء كورونا، وعلى ما سمّاها استعادة أميركا لدورها الريادي العالمي، وإعادة الوحدة الاميركية بعد الفرز الذي قال بايدن انّ سياسات ترامب قد أحدثتها، إضافة الى الملفين الصيني والروسي، ومعالجة الكارثة الانسانية على الحدود الجنوبية مع المكسيك، ومعالجة ملفات اللجوء وللاجئين الى أميركا. ولم يُشر الى لبنان لا من قريب أو من بعيد.
وتِبعاً لذلك، تؤكد المصادر “انّ انتظار إدارة بايدن ما هو سوى تضييع للوقت، ناجِم عن قراءات قاصِرة للمشهد الاميركي وموقع لبنان فيه. وعلى اللبنانيين، أمام هذا الواقع، أن يدركوا أن لا أحد يُقيم وزناً للبنان أو يحسب له حساباً، وهذا يُحَتّم نزول المراهنين على متغيّرات، مع تَسلّم الادارة الاميركية الجديدة، الى أرض الواقع، و”تَقليع” شوك تعطيل الحكومة من أيديهم، لعلهم بذلك يتمكنون من إنقاذ ما يمكن إنقاذه في بلد صارَ في قعر الهاوية.
إحتمالات مرعبة
في سياق متصل، أعربَ مرجع مسؤول عن تخوف شديد من التطورات المتسارعة في المنطقة التي حصلت في الايام الاخيرة، بدءاً بالغارات الاسرائيلية الصاروخية المكثّفة ضد سوريا، مع التحليق الاسرائيلي المكثّف في الاجواء اللبنانية وما جرى قبل ايام قليلة على الحدود الجنوبيّة، اضافة الى التطوّرَين اللذين ينبغي ألّا يتم القفز فوقهما: الأول، ما ورد في تقرير الكونغرس الاميركي حول انفجار مرفأ بيروت. والثاني، القرصنة التي تعرضت لها “مؤسسة القرض الحسن” التي أحدثت إرباكاً كبيراً على المستوى المصرفي، حيث يخشى ان يكون ذلك مقدمة لِما هو أخطر وأوسع، ولا سيما على المستوى المالي والنقدي.
وقال المرجع لـ”الجمهورية”: إنّ هذه التطورات، يُضاف اليها ما يُحكى عن خطوات تعدّ لها إدارة ترامب قبل انتهاء ولايته، وتحديداً ضد ايران، تجعل الفترة الفاصلة من الآن وحتى 20 كانون الثاني المقبل حُبلى بالاحتمالات الخطيرة، التي يُخشى ان تكون مرعبة وتَتمدّد تفاعلاتها على طول المنطقة، بدءاً من إيران وصولاً الى لبنان. وأضاف: كلّ ذلك يوجِب ألّا يخرج من حسبان لبنان العامل الاسرائيلي من دائرة الاحتمالات والخطوات العدوانية. أفلا يستدعي ذلك أن نسعى الى شيء من التحصين لوضعنا، ونُسارع الى تشكيل حكومة خارج إطار الحسابات والمصالح الضيقة؟