كتبت صحيفة “الجمهورية” تقول: لبنان يعاني الإنكسار الكامل؛ الشلل هو العنوان، والسياسة بشكل عام خاوية تماماً وفي انحدار مريع، بحيث لم يعد لها أيّ معنى، وعدّادات “كورونا” لم تعد قادرة على اللحاق بعدد الاصابات بهذا الوباء، وخزّانات الأزمة طافحة بالتعقيدات الاقتصادية والمالية والاجتماعية المتفاقمة وصارت على حافة الانفجار الاجتماعي الرهيب، والسيناريوهات المخيفة تلوح في الأفق وتُنذر باحتمالات سوداء ربطاً بالتطوّرات المتسارعة في المنطقة. أمّا العقل السياسي الذي يفترض أن يتدبّر أمر البلد بحكمة ومسؤوليّة، فهو إمّا مثقوب، وإمّا مَنخور بسوس مصالحه وشهواته على حساب وطن وشعب بكامله، وإمّا مهاجر في إجازة مفتوحة لا سقف زمنياً لها!
هي صورة من صنع الحكام، ولعلّها الصورة الأسوأ التي يظهر فيها لبنان على مرّ تاريخه، كوطن صار مخلّع الأسس، وكدولة عنوانها الافلاس الكامل، ولم تعد تحمل من معنى الدولة سوى الإسم. أمّا اللبنانيّون فمنسيّون على قارعة أزماتها المتتالية والمتشعبة، ومكتوب عليهم انتظار أن يأتي الفرج من عِلم الغيب. فيما الأفق مسدود فلا نوافذ مفتوحة على حلول، ولا أبواب مفتوحة على مخارج، وليس في نهاية النفق ما يؤشّر إلى شفاءٍ من هذا المرض العضال.
خطران
كورونيّاً، يبدو أنّ لبنان يُساق إلى تجربة مريرة جديدة مع الوباء، سواء بالنسخه الأولى لـ”كورونا” التي هزمت الإجراءات العشوائيّة للسلطة الحاكمة، وغباء المُستهترين بها، وتفشّت في الأرجاء اللبنانية بشكل مريع، أو بنسختها الثانية المتحوّرة التي تنذر مع هذا الوضع بشرور لا تحمد عقباها. وعلى ما تقول مصادر طبيّة لـ”الجمهوريّة” فإنّ ما قد ينتظر لبنان في هذا السياق، إن لم يتم تَداركه سريعاً بإجراءات استثنائيّة صارمة في حزمها وشدّتها وصرامتها، هو الكارثة الكبرى بعينها، وما أصابَ لبنان منذ تفشّي كورونا الأولى في شباط الماضي قد يشكّل نقطة في بحر ما هو آت”.
وتؤكد المصادر “انّ الوضع مخيف جداً، فلقد كان لبنان امام خطر وبائي، فصار امام خطرين متفاعلين مع بعضعهما البعض. وبالتالي، على المواطن اللبناني أن يدرك ذلك، كما على الدولة أن تخرج من سطحية قراراتها وإجراءاتها السابقة، وتستفيد من فشلها، وتُسارع الى اتخاذ القرار الحاسم، وتقتدي بما اعتمد في العديد من الدول لِردّ هذا الخطر، حتى ولو اقتضى الأمر الإقفال التام للبلد، وبالقوة.
وكشفت المصادر أنّ الأعداد المتزايدة من الإصابات بوباء “كورونا”، والتي بدأت تتجاوز عتبة الـ2000 إصابة يومياً، تجعلنا نشعر بخوف شديد من أن نصل الى مرحلة يتجاوز فيها عدد الاصابات الـ5 آلاف حالة يوميّاً وربما أكثر، ذلك أنّ سرعة تفشّي الوباء في لبنان تعتبر من الأعلى من بين الدول المنكوبة بكورونا. والمسؤولية عن ذلك مشتركة يتقاسَمها استهتار المواطنين، وكذلك استخفاف السلطة وعدم قيامها بمسؤولياتها كما يجب منذ بداية هذه الأزمة.
ورداً على سؤال حول اللقاح المنتظر وصوله الى لبنان منتصف شباط المقبل، لفتت المصادر الى انّ مفعول هذا اللقاح – إذا وصل في الموعد المحدد – يمكن الحديث عنه بعد بدء اللقاحات. ولكن حتى ذلك الحين تفصلنا فترة تُقارِب الشهرين، وليس معنى ذلك ألّا تشدد السلطة من إجراءاتها، أو أن يستهتر المواطن وتزيد الاصابات، وأمام هذا الاستهتار نستقبل اللقاح وقد زاد عدد الحالات 100 إلف إصابة جديدة.
نار الاقتصاد والمال
في الجانب الآخر من الازمة، تلوح في الأفق الاقتصادي والمالي والاجتماعي سيناريوهات متعددة حول انهيارات محتملة مع بدء السنة الجديدة. وعلى ما يؤكد خبراء اقتصاديون لـ”الجمهورية”، فإنّهم مرعوبون من ممّا يلوح في الافق اللبناني من احتمالات خطيرة، فبداية السنة الجديدة قد تحمل معها فتائل اشتعالٍ خطير على المستوى الاقتصادي، بعدما سُدّ أفقه بالكامل جرّاء الصراعات السياسيّة وعدم وجود سلطة فعلية تبادر الى وقف الإنهيار.
واذا كان الحديث عن موضوع الدعم قد تراجع في الفترة الحالية، فإنّ هذا الأمر في رأي الخبراء سيُخضِع البلد في الفترة المقبلة الى وضع شديد الصعوبة، فيكون متأرجحاً بين نار التمسّك بالاحتياطي الالزامي لمصرف لبنان، ونار استمرار الدعم وما يترتّب على ذلك من استنزاف لهذا الاحتياط، ونار وَقف هذا الدعم وما قد يترتب على ذلك من آثار اجتماعية رهيبة يُخشى معها أن تؤدي الى فوضى شاملة وانفجار اجتماعي خطير.
وبحسب الخبراء لا حلول حتى الآن، خصوصاً أنّ مصرف لبنان قد حدد سقف قدرته على الاستمرار في هذا الدعم، وهذا يُلقي المسؤولية على السياسيين وتأخّرهم في تشكيل حكومة تستعيد ثقة المجتمع الدولي بلبنان، وتَشرع فوراً في تطبيق برنامج إنقاذي يستهل باستئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وإجراء الاصلاحات التي من شأنها أن تكافح الفساد الذي ما يزال مستشرياً في كل القطاعات، وتوقف الهدر القائم في مالية الدولة. وتلك هي الشروط الاساسية التي حددها المجتمع الدولي لتقديم مساعدات الى لبنان. لا نقول هنا انّ تأليف الحكومة قد يشكّل عصا سحرية لوقف الانهيار وإنهاء هذه الازمة، إنما هو قد يشكّل خطوة أولى في رحلة الـ1000 ميل في هذا الاتجاه.
وعلى الرغم من أنّ تشكيل الحكومة لا يشكل عامل الوَقف الفوري للانهيار الاقتصادي والمالي، بل يشكل عامل اطمئنان ونقطة انطلاق لوضع علاجات للأزمة، إلّا أنّ الخبراء الاقتصاديّين يعتبرون أنه في موازاة الشحّ في مخزون لبنان من العملة الاميركية الخضراء، ثمة خشية من أنّ تأخير الحكومة والتفاعلات السياسية التي تحيطه، قد ينسحب فلتاناً مريعاً في سعر الصرف، وهو ما تؤشّر إليه تحذيرات المؤسسات المالية الدولية، وكذلك بعض المعطيات الداخلية التي تفيد عن تحضيرات للعبة خطيرة بالدولار في السوق السوداء ترفع سعر الدولار الى مستويات خيالية.
كبّروا الحجر
الى ذلك، ورداً على سؤال عمّا إذا كان التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان وسائر مؤسسات الدولة وقطاعاتها يشكل عاملاً ايجابياً ومساعداً في وقف الازمة والانهيار؟ قالت مصادر اقتصادية: هذا الموضوع سياسي بامتياز، يبدو أنّهم كبّروا الحجر لكي لا يصيب. صحيح انّ التدقيق مطلوب في كل شيء، ويجب ان يحصل ويشمل كل الوزارات والمؤسسات ولا يستثني شيئاً، ولكنّه مطلوب بشفافيّة وصدقية، فهل هذا ممكن في لبنان؟ وفي ظل هذا الطاقم الحاكم المشكوك فيه؟
أضافت المصادر: بصرف النظر عن كل شيء، طالما أنّ الكلّ بات على إجماع بأنّ الشعب اللبناني فقد الثقة بدولته وحكامه، فإنّ كلّ ما يُحكى عن إجراءات لمكافحة الفساد، بما في ذلك قانون رفع السرية المصرفية وربطها بالتدقيق المالي الجنائي، لن يكون في أفضل الأحوال إلّا أدوات لتمرير صفقات سياسيّة، أقله إلى أن يثبت عكس ذلك، وبالتأكيد لن يثبت العكس.
الحكومة شلل
حكومياً، سلّة التأليف مَلأى بالتعقيدات ذاتها: الصراع على وزارتي الداخلية والعدل، الثلث المعطّل لرئيس الجمهورية وفريقه السياسي، تسمية الوزراء، إضافة الى كلّ العناصر الأخرى التي أوصَلت اللقاءات بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف الى حائط مسدود، وفي مقدّمها عدم ثقة الشريكين في التأليف ببعضهما البعض. أمّا سلّة الحلول والمخارج فتبدو فارغة بالكامل، ولا تلوح فيها أي بارقة أمل بانفراج حكومي قريب.
وبحسب معلومات “الجمهورية” فإنّ معظم القوى السياسيّة المعنية بملف التأليف او غير المعنية، باتت مُجمعة على أنّ الانسداد في النفق الحكومي بات كاملاً، والحوار بين عون والحريري لم يوصِل الى أي نتيجة، بل على العكس أظهَر الهوّة الواسعة التي تفصل بين نظرة كلّ منهما الى الحكومة الجديدة، وافترقا في آخر لقاء بينهما على خلاف كبير.
حكومة “الامر لي”
وعلى ما تؤكد مصادر سياسيّة واسعة الاطلاع لـ”الجمهورية”، فإنّ حجم الخلاف بين عون والحريري واتّساعه أصبح يؤكّد أنّ الوصول الى تفاهم بينهما على حكومة هو من سابع المستحيلات. وما أكدت عليه هذه المصادر يتقاطَع مع نظرة شديدة التشاؤم يُلقيها مسؤول كبير على ملف التأليف، حيث يقول لـ”الجمهورية”: الحجج التي يتذرّع بها عون والحريري لا تحجب ما يُضمرانه، حيال حكومة يريدها كلّ منهما على قاعدة “الأمر لي” فيها.
وفي رأي المسؤول عينه انّ الجَو سوداوي، وحركة التأليف بشكل عام كانت في أحسن أحوالها عبثية بين عقليتين متصادمتين تسعى كل واحدة منهما الى كسر الأخرى. وقال: الحوار الذي حصل بين عون والحريري، والذي قد يحصل لاحقاً، ما هو إلّا مضيعة للوقت. وإنّ خلفيّة موقفيهما تبعث على التأكيد بأنّه لن يوصِل الى اي نتيجة مهما طال أمَده، وانّ أي جهد يُبذل في سبيل دفعهما الى اللقاء والتحاور في ظل هذا الخلاف الجوهري، هو جهد فارغ ولا طائل منه. ذلك أنّ أزمة الثقة بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف هذه متجذّرة أصلاً، وأصعب من أن تُلحَم بسهولة، وتحتاج الى قدرات خارقة، لا بل إلى معجزة تغيّر ما في النفوس أولاً وقبل كلّ شيء. وتبعاً لذلك، فإنّ ثمة احتمالاً وحيداً لبلوغهما مَدار التفاهم، وهو أن تدفع بهما “قوّة قاهرة” إلى التفاهم وتُكرههما على تشكيل حكومة”.
وبينما يتردّد في بعض الصالونات السياسية المعنية بملف التأليف عن زيارة محتملة لموفد بابوي الى بيروت في الفترة القريبة، كَتتمّة للنداء الذي أطلقه قداسة البابا فرنسيس قبل أيام، ودعا فيه “السياسيين اللبنانيين الى وضع مصالحهم الخاصة جانباً والتحرك سريعاً من أجل وضع بلدهم على طريق الإصلاح عبر خطوات تنفيذية عملية وسريعة”، علمت “الجمهورية” من مصادر موثوقة أنّ باريس ما زالت حاضرة بفعالية على الخط الحكومي، ولم تغيّر إصابة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بفيروس “كورونا” في أجندتها اللبنانية. حيث بقي مستشار الرئيس الفرنسي باتريك دوريل على خط التواصل الهاتفي مع لبنان حتى ما قبل عيد الميلاد، سعياً الى التقريب بين المختلفين، ولكن من دون أن يلقى التجاوب المطلوب معه، ولقد عبّر دوريل عن إحباطه لبعض الاصدقاء اللبنانيّين.
الى الربيع
ومع تزايد الحديث عن أنّ الملف الحكومي دخل الى جمود كلّي حتى 20 شهر كانون الثاني المقبل؛ موعد تسلّم الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن، لفتت في الساعات الماضية تغريدة للممثّل الخاص للامين العام للامم المتحدة يان كوبيتش، كتب فيها: “الوضعان الاقتصادي والمالي إضافة الى النظام المصرفي في حال من الفوضى، السلم الاجتماعي بدأ ينهار والأحداث الامنية باشرت الارتفاع، الهيكل اللبناني يهتزّ، أمّا القادة السياسيون فيبدو أنهم ينتظرون بايدن، ولكن هذا لبنان وليس الولايات المتحدة”.
وسألت “الجمهوريّة” أحد كبار المسؤولين عن حقيقة انتظار بدء ولاية بايدن، فقال: واهِمٌ من يعتقد بتَغيّر الحال قبل ولاية بايدن أو بعد بَدء ولايته، الاميركيّون ليسوا عابئين بنا أو مُكترثين لنا. ومع الأسف هناك من هو مصرّ على الانتظار، فهل يعتقد أنّ الحكومة ستتشكّل بعد 20 كانون الثاني بقليل؟ أنا أخشى مع هذا الإنتظار أن لا حكومة من الآن وحتى شهرين على أقرب تقدير، لا بل حتى الربيع المقبل إن لم يكن حتى ما بعد الربيع.
وأعربَ عن تخوّفه من مرحلة صعبة في ظل المؤشرات الاقتصادية والمالية الخطيرة، وكذلك في ظل وضع مُحتقن في المنطقة واحتمالات تضعها على فوهة بركان، خصوصاً خلال ما تبقّى من أيام معدودة للرئيس الأميركي دونالد ترامب في البيت الأبيض، وهي أيام محفوفة بمخاطر كبرى ومناخ حربي يهدد بإشعال المنطقة برمتها، بدءاً من ايران.
وخَلص المسؤول الكبير الى القول: لبنان ليس منعزلاً عن هذه المنطقة، وإذا وقع المحظور فالله وحده يعلم كيف سيكون حاله. من هنا، ليس علينا سوى أن نحذر. فترامب، على ما يبدو، يبحث عن الذريعة التي قد يستخدمها لفتح أبواب الجحيم مجدداً في الشرق الاوسط.