تشهد تركيا منذ تولي رجب طيب اردوغان الحكم بداية عام 2003، سرعة ملحوظة في وتيرة تأصيل استبدادية مركزية للنظام السياسي الحاكم، إضافة إلى “شخصنة” متصاعدة للسلطة في شخص أردوغان. وقد شهد هذا النمط التسلطي والشخصاني صعوداً واضحاً، خصوصاً بعد محاولة “الانقلاب” التي استهدفت النظام في 15 من يوليو (تموز) 2016، وهو التاريخ الذي يؤرخ بداية فترة جديدة من الرئاسة الاردوغانية الاستبدادية مع غياب الحياة الدستورية والتداول السلمي للسلطة مصحوبة بانعدام تام لدور المعارضة.
تمثل محاولة “الانقلاب” التي استهدفت الحكم الأردوغاني في 15 من يوليو2016، نقطة تحول جوهرية في تاريخ تركيا، حيث تشهد البلاد منذ ذلك الحين سلسلة من الأزمات السياسية والاقتصادية مع تزايد نفوذ وقدرة حزب العدالة والتنمية الحاكم على كبح جماح حشود المعارضة، وتحديداً مع أنصار المعارض التركي عبد الله غول التي شكلت أيضاً مرحلة جديدة في النمط التسلطي والاستبدادي للحزب الحاكم في تركيا، ونوعاً من التحول السياسي الخطير الذي تشهده البلاد الآن والمتمثل في تحويل النظام السياسي في تركيا الى نظام دكتاتوري يتمحور حول شخص واحد هو اردوغان الذي يتمتع بمقومات وصلاحيات نصف إله، والذي جعل من تركيا رهينة استبداده سواء على المستوى الداخلي أو الإقليمي أو الدولي، وبعد أن اختصر بشخصه جميع العلاقات المؤسسية والعسكرية والقضائية في البلاد؛ الأمر الذي دفع عدد من الخبراء في الشأن التركي إلى وصف النظام الأردوغاني بالمتطرف والخطير بعد تحالفه مع جماعة الاخوان المسلمين التي تتأسس توجهاتهم الفكرية على ايديولوجية تكفيرية متطرفة تقوم على تخريب المجتمعات العربية وتدميرها، وتحول تركيا من الديمقراطية الإسلامية إلى الاستبداد، حيث بدأت تنهار صورة إردوغان كديمقراطي إسلامي على خلفية مراجعته للدستور والقوانين بهدف إحكام سيطرته على أجهزة الدولة الرئيسية، من قضاء وشرطة وجيش وجامعات، إضافة الى شخصية أردوغان “المريضة” التي لا تحتمل أي انتقاد والنيل من وسائل الإعلام؛ إذ وصل عدد الصحافيين المسجونين مؤخراً الى نحو 88 صحافياً، وهو رقم قياسي إلى حد كبير، إضافة الى آلاف المحتجزين من الضباط العسكريين، وعزل الآلاف من القضاة ورجال القانون، إضافة إلى أساتذة الجامعات؛ بسبب مواقفهم المعارضة لسياسة أردوغان الأمر الذي عزز من شأن قبضته الحديدية على البلاد، وبدأ في إحاطة نفسه بطبقة الموالين له وأصحاب المصالح.
مما لا شك فيه أن أردوغان يعاني جنون العظمة، ما جعل تركيا تنكشف يوماً تلو الآخر، فالآغا العثماني لا وقت لديه للداخل، إنه مشغول إلى أبعد الحدود بغزوات الخارج وأحلام إعادة أمجاد السلطنة العثمانية مرة جديدة، ولهذا فإنه يوماً تلو الآخر تتعرض خزينته للنضوب، ويفقد البنك المركزي احتياطياته، ولهذا كان من الطبيعي أن تنخفض الليرة التركية بنسبة 22 في المائة الأيام الماضية، وبعد أن بلغت الفائدة أقل من الصفر بكثير، وللقارئ أن يتفهم انعكاسات هذا المشهد على واقع حال الاقتصاد التركي في الداخل.
الاستبداد الأردوغاني لا يفيد، لكنه يشير الى شخصية مضطربة تعاني من التوهم في مقارعة كل دول العالم ولا سيما البلدان العربية، فمع تصاعد وتيرة أزمات الشرق الأوسط بدأ حلم أردوغان يتقلص بالانضمام للاتحاد الأوروبي لصعوبة تحقيق ذلك على أرض الواقع، لذلك وجد ضالته في البلدان العربية وتحديداً في سوريا والعراق وليبيا ومصر وغيرها للعب دور تخريبي وتدميري يلبي طموحاته القديمة عن طريق مساندة ودعم الجماعات الارهابية المسلحة في ليبيا وسوريا واليمن والسودان.
ومقابل هذا الفكر الأردوغاني التسلطي والتوسعي، الذي جعل من أمن تركيا القومي ليس على الحدود التركية وإنما خارج هذه الحدود، ينبغي وضع استراتيجية عربية لمواجهة التمدد التركي في المنطقة العربية، والاتفاق على أليات عربية مشتركة للحد من الهمجية الأردوغانية واستئصال الفكر الاخواني التكفيري لدى جماعة الاخوان المسلمين الذين يجدون عند أردوغان الملجأ وهو الذي أوصل منطقة البحر المتوسط إلى هذه الحالة التي تأخذ طابع انعدام الأمن والاستقرار.
هناك محاولة اليوم لرسم الحدود الجغرافية والبحرية على مقاس المنتصر، في ظل غياب كامل لتطبيق القانون الدولي والمعاهدات الدولية، ما يجعل الأمن القومي العربي في خطر كبير، إذا ما رهنت البلدان العربية نفسها للأحلام الأردوغانية التي لم تعد بدورها تخشى البلل.