إن الحديث عن الشأن الدرزي ومشاركة الدروز في السلطة من ضمن التعددية الطائفية في لبنان، لا ينطلق من اعتبارات طائفية أو مذهبية، وإنما مقاربتهم دائماً قومية، أو وطنية، أو اجتماعية..
إنه من المثالية والطوباوية والجهل بل والخداع لجمهور المجتمع الدرزي لو زعمنا أن أحوال الدروز منذ بداية التسعينات هي في أحسن حال، وأن دورهم داخل الدولة اللبنانية وحقوقهم في الإدارات والوزارات هي طبيعية عادلة ومماثلة لحقوق الجماعات الطائفية المكوّنة للمجتمع اللبناني.
إن مشاركة الدروز في السلطة اليوم، وحقوقهم في دولتهم التي يكفلها الدستور بخاصة، باتا منذ فترة، وتحديداً في زمن “الجمهورية الثانية”، على خلل فادح لا يليق بوطن يجب أن يتساوى أفراده وطوائفه في الحقوق والواجبات، ولا يليق كذلك بطائفة كيانية تُجمِع مدونات المؤرخين أنها حكمت إمارة جبل لبنان لمئات السنين بالعدل والحكمة ورجحان العقل وسعة الصدر والتنوع والتعددية والمشاركة من كل الفئات الدينية المكونة للمجتمع اللبناني. ولو لم تكن الأمور كذلك فما الذي جلب إلى الجبل ولبنان كل الطوائف والمذاهب الإسلامية والمسيحية المعروفة هذه؟.
جاء الموحدون الدروز من شمال الجزيرة العربية لحماية الثغور ضد حملات الفرنجة، وخاضوا أشرس المواجهات مع الصليبيين واقتضت المهمة العربية القومية تلك التضحيات الجسام في الأموال والممتلكات وفي الأرواح على وجه التحديد، وقد انعكس هذا الأمر في الخلل الديموغرافي الذي اكتمل بهجرة آلاف الأسر الدرزية إلى حوران وحلب وفلسطين التي حدثت نتيجة العقوبات التي فرضها عليهم التدخل الأوروبي الذي جلب حوادث 1860 الى جبل لبنان.
وتكرّرت ثورات الموحدين الدروز مرة بعد مرة مع كل الغزاة من المماليك والعثمانيين وابراهيم باشا ثم الإنتداب الفرنسي الذين قدموا إلى جبل لبنان وحاولوا سلب استقلاله النسبيّ وحريات أفراده بينما كانت ثورتهم ضد الإنتداب الفرنسي علامة مميزة طوال سنتي 1925- 1926، التي بدأت في جبل الدروز الكبير وسرعان ما امتدت إلى وادي التيم وأنحاء من جبل لبنان. والغريب أنه في الوقت الذي كانت فيه مجموعات معينة تطالب بكيانات خاصة بها، كان سلطان باشا الأطرش في ثورته المشهودة تلك يرفض ثم يسقط مشروع إقامة دولة درزية عاصمتها السويداء، إلى جانب دول طائفية أخرى في سوريا والمشرق العربي.
وقد كان للدروز نصيب كبير في تصدرهم معركة استقلال لبنان وسوريا سنة 1943، وأصبح الأمير مجيد أرسلان وبلدة بشامون وشهيد الإستقلال الوحيد سعيد تقي الدين، رمزاً لإستقلال لبنان.
وكانت ذروة معارك الدروز القومية والوطنية مواجهات 1975 – 76 التي تصدّت للتداعيات الطائفية، لكن الدروز، وبقيادة كمال جنبلاط ومعه الحركة الوطنية، لم يخوضوا تلك المواجهات، التي اتسعت سنة 1982 لتشمل الاجتياح الإسرائيلي وبوارج الأسطول السادس التي دكّت مناطقهم، وامتدت حتى سنة 1989، وكلفت من جديد مجتمعهم المنهك بالتضحيات حوالى خمسة آلاف قتيل وضعفهم من الجرحى، تحت راية درزية أو طائفية أو فئوية، وإنما بعناوين وأهداف وطنية – اجتماعية تحديثية وإصلاحية بامتياز، الى أن جاءتإتفاقية الطائف التي أنهت الحرب تلك وأنجزت صفقة طائفية بامتياز كانوا الدروزالضحية الأبرز لها.
ومنذ ذلك الحين، أي مع قيام “الجمهورية الثانية”، وتأثير وجود وليد جنبلاط الحذر من بقية الشركاء في الطائفة الدرزية، بدأ الوجود الدرزي يتراجع بل يتلاشى في إدارات الدولة، في وزاراتها ومؤسساتها ومصالحها كافة حتى بات للدروز – وعلى سبيل المثال لا الحصر – مدير عام واحد بين أكثر من عشرين أو ثلاثين مديراً في الوزارات ومؤسسات الرئاسات، وكذا في المصالح والدوائر وسلطات الخدمات.
لقد بات الدروز بحق “هنود حمر الدولة اللبنانية” والغريب أن القيمين على شؤون الطائفة الدرزية آنذاك لم يعترضوا، كما كان يجب، لا على صفقة إتفاق الطائف الذين غابوا عن لحظات ولادتها، ولا على زيادة عدد النواب إلى 128 دون أخذ عددهم الوازن في الاعتبار، ولا على القضم التدريجي لحقوق الطائفة الدرزية في المناصب والإدارات والمراكز الرسمية.
لقد أدّى عدم الإعتراض الجنبلاطي والمهادنة تكراراً إلى نشوء وهم عند البعض أن الدروز غير مبالين بما يحدث لأوضاعهم وحقوقهم ومستقبلهم في الإدارة، بالتالي لطالما أن الزعيم بخير من خلال إيرادات صندوق المهجرين، وصولاً الى اليوم، الى مثل المطالبة بطائف جديد يتشكل على قاعدة المثالثة بين الموارنة والسُّنّة حصراً ودون الدروز وأحقيتهم في إسناد رئاسة مجلس الشيوخ إليهم.
لا نبوح بسر حين نشير إلى الضائقة المعيشية التي يعاني منها أكثر الأسر الدرزية الفقيرة والمتوسطة الحال، وبخاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية، وتفشي كورونا في الأرياف، وفي ظل البطالة العالية حيث لا يجد معظم شبّان الدروز غير الاختيار بين الهجرة الكثيفة إلى أي مكان وبأية شروط ولمن يتاح له ذلك، أو الانطلاق في صباح اليوم الباكر في عشرات الحافلات الصغيرة تنقلهم وتنقلهن من قراهم إلى “المُولات” والسوبرماركات وشركات الحراسة المنتشرة في العاصمة بيروت وضواحيها، يبحثون عن فتات من المال يقيهم ويقيهن شرّ العوَز والحاجة في مجتمع لم يتعوّد مدّ الأيدي أو الصراخ طلباً للمساعدة.
ولكن ما الذي يحمل للدروز ولأسرهم العدل والإنصاف فيُرفعُ عنهم الظلم والإجحاف المحيقان بهم منذ سنوات، فيمنحُ أبناؤهم وأجيالهم الشابة فرصاً موازية لفرص سواهم في الوطن الذي بناه أجدادهم مع سواهم وضحّوا في سبيل استقلاله وحريته كما لم تفعل أية مجموعة لبنانية أخرى؟.
أوامر اليوم الصادرة عن المختارة تدعو إلى المطالبة بحقوق الدروز عند تشكيل الحكومة قبل أن يصبحوا بالفعل كـ “الهنود الحمر”، الأمر الذي سيحرم الدروز المستقبل و”سيضمحلون ويتبخرون”.
هل هي صدفة، أو هو مسار التاريخ، لتقهقر دور الدروز وحضورهم في السلطة حقبة بعد حقبة وتهميشهم ودفعهم الى الرحيل والإنتشار والذوبان في أرض الله الواسعة، سعياً وراء الحرية والأمان والإستقرار ولقمة العيش؟.
قد يجد البعض في هذا الكلام لغة طائفية أو مذهبية، وهذا غير صحيح أبداً، فنحن مع إيماننا العميق، لا نتكلم سوى لغة وطنية وقومية صافية، مستندين الى أرقام ووقائع وواقع قائم، لا يمكن لأحد أن ينكره أو يتجاهله، والكلام المعسول حول التمسّك بالوحدة الوطنية والعيش المشترك والمساواة، لا يصرف في أي مكان إن لم يكن مترجماً الى فعل على الأرض، وهذا غير موجود لا في القوانين ولا في الحكومة ولا في مؤسسات الدولة، ووزاراتها، واذا كان الصوت عند الدروز بدأ يرتفع مطالباً باستحداث مجلس للشيوخ وإسناد رئاسته لدرزي، فلأن الواقع على الأرض لم يعد يطاق، ولا أحد يهتم بتفاديه أو تعطيله أو وقفة من الشريك في الوطن.
ندرك اليوم، كم كان النائب السابق وليد جنبلاط على حق، عندما قال إن الدروز أصبحوا مثل “الهنود الحمر”. ولكن هذا الإعتراف لا يبرّر لجنبلاط أو يعفيه من المسؤولية وهو الذي ساهم بشكل أساسي في تراجع الدور السياسي للطائفة الدرزية في السنوات الماضية، ومع غياب وحدة الصف الداخلي والحفاظ على التعددية السياسية والتنوع الذي طالما كان يحمي مجتمعهم، على الدروز أن يأخذوا على محمل الجد خطر الزوال الجماعي!.