عشية الذكرى المئوية الأولى لإعلان “دولة لبنان الكبير” (1920- 2010) وفيما تمرّ الجمهورية اللبنانية التي نالت استقلالها منذ 77 عاماً في أزمة مصيريّة، يخوض اللبنانيون معركة الدفاع عن وطنهم الذي أرادوه صنّاعه واحة للعيش المشترك والديمقراطية والتعددية والهوية المركبة وحوار المعتقدات والثقافات وتطور الآداب والفنون، وتختلف سياسياً واجتماعياً واقتصادياً عن محيطها، لكنها باتت اليوم مهدّدة في إمكانية استمرارها نتيجة عوامل عديدة داخلية وخارجية قد تؤدي تداعياتها إلى تغيير شكل لبنان الذي نعرفه منذ مئة عام.
لم يكن الإعلان عن قيام دولة لبنان الكبير مجرّد شحطة قلم أمْلَتها سياسة الإنتداب الفرنسي في الشرق الأوسط، إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى: فالكيان اللبناني شبه المستقل يعود في جذوره إلى عهد الأمراء المعنيين والشهابيين الذين تمتعوا بسلطات واسعة خلال سيطرة السلطنة العثمانية على المشرق العربي، وعشية الحرب العالمية الأولى كان جبل لبنان يتمتع باستقلال ذاتي في ظلِّ مجلس إدارة متصرفية جبل لبنان المنتخب والذي سرعان ما نادى بالإستقلال، لتخوض وفودٌ لبنانية على رأسها البطريرك الماروني الياس الحويك مفاوضات في باريس لضمان حصول لبنان على استقلاله في حدوده الراهنة، وهو ما كُرّس في إعلان “دولة لبنان الكبير” بلسان الجنرال غورو في أول سبتمبر 1920.
لم يكن درب الإستقلال سهلاً وبناء الدولة ليس أمراً يسيراً، فقد شهدت “دولة لبنان الكبير” في مرحلة الاستقلال عام 1943 صراعات داخلية هدّدت احتمالات استقراره، بين دعاة الوحدة مع سوريا وبين المتمسّكين بلبنان الكيان المستقل، وعلى مدى سنوات تبلورت قناعات جديدة قرَّبت الاستقلاليين من مختلف الطوائف إلى بعضهم بعضاً، فوُلد ما سُمِّي “بالميثاق الوطني” الذي قامت السلطة على أساسه، في نظام محاصصة بين الطوائف يحكمه الإنتماء العربي والإلتزام بالشرعيتين الدولية والعربية بعد قيام جامعة الدول العربية التي أسهم لبنان في تأسيسها.
صمد الوطن اللبناني في عالم عربي تعرّض لنكسة كبرى مع قيام الكيان الغاصب في فلسطين المحتلة، ثم مع توسع “إسرائيل” في سلسلة حروب عدوانية أسفرت عن قضم ما تبقّى من فلسطين وعن احتلال الجولان العربي السوري، وصمد لبنان وازدهر عندما بدأت سلسلة الإنقلابات العسكرية في سوريا ومصر والعراق، وخاض امتحانه الأكبر عندما اندلعت فيه حربٌ أهلية مديدة على خلفية توقيع “اتفاق القاهرة” في عهد رئيس الجمهورية شارل حلو عام 1969 الذي كرّس العمل الفدائي الفلسطيني من الأراضي اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وانتهت تلك المرحلة باجتياح إسرائيلي واسع للبنان عام 1982 قامت في وجهه مقاومة لبنانية تمكنت في النهاية من فرض انسحاب قوات العدو من أراضيه.
منذ الإستقلال، والمؤمنون “بدولة لبنان الكبير” يجهدون لإعطاء صورة رسولية وحضارية عن بلدهم محاولين إبراز حسنات الصيغة اللبنانية في الشرق والغرب كنموذج تعايش بين الأديان بعد الفتوحات الإسلامية والإقتتال الدرزي/المسيحي ونظام القائمقاميتين، وبعد الصراع الأوروبي/العثماني ونظام المتصرفية، وبعد الحرب العالمية الأولى والمشاريع القومية.
ولكن لم يعد لبنان هو تلك البلاد التي رَسَمَها الرحابنة بريشةٍ من أحلام، أو التي غالباً ما فاخرت بأنها قاهرةُ الحروب والنكبات، أو الوطن الذي ينتفض في الأزمات كطائر الفينيق من تحت الرماد.
إنه لبنان آخَر كأنه يعود، ودفعة واحدة، إلى ما قبل مئة عام من الكوابيس التي لم تغادر الذاكرة المشحونة بالقليل من الأزدهار والكثير من الكوارث والنكسات.
ففي لحظة الإنهيار المالي واقتراب شبح الإفلاس في المئوية الأولى من عمر لبنان، لم تعد تنفع عرض أرقام البطالة والفقر والغلاء والهجرة ومراقبة معدلات إنهيار الليرة أو الإطلاع على أعداد المؤسسات التي أُقفلت ناهيك عن الفساد المستشري من كل صوب وحدب.
في البيوت وعلى المقاهي، في الشوارع وأمام المتاجر، على المنابر وفي برامج التلفزة “طَبَقٌ واحد” من أحاديث اللبنانيين وهمومهم … إنه البؤس والحرمان والخوف الذي لم تشهده البلاد حتى في أيام الحروب، والعوَز الذي لم يكن ألفه السواد الأعظم من اللبنانيين، وسوء الحال والشح والانهيار الذي يغزو العائلات اللبنانية وكأنه لم يعد في اليد حيلة.
ولكن أكثر ما يقلق اللبنانيين، الذين “سُرقت” مدخراتهم في المصارف وقَضَمَت الهندسات المالية رواتبهم وأجورهم وجنون الاسعار والغلاء الذي يفوق كل تصوّر وتهاوي سعر صرف الليرة أمام الدولار الأميركي، هو شبح المجاعة الذي يبعث في الأذهان صوراً من تاريخ “بلاد الأرز” قبل ما يزيد عن مئة عام، والذي تواجهه السلطة الحاكمة بالإجراءات المرّة بانتظارالمجهول..
قد يزعم البعض إن أوضاع المنطقة الملتهبة ولبنان بتركيبته وموقعه فى الجغرافيا السياسية الأكثر تأثراً بهذه الأوضاع، ساهمت بالأزمة الاقتصادية، ولكن هذا جزء بسيط من المشكلة التى هي لبنانية بشكل كبير في مسبباتها البعيدة والقريبة وفي تطورها ومسارها. فالنظام السياسي القائم على ثلاثية الفساد والزبائنية والشخصنة في إطار واقع سلطة فيدرالية الطوائف السياسية المتحكّمة بإدارة الحياة السياسية والاقتصادية وغيرها، تمنع أو تشلّ محاولات التغيير الفعلي والفعّال. إنه نظام فريد وعجيب يعمّق تلك الأزمات ويراكمها ويعمل على إدارتها أو احتوائها عبر لعبة المقايضات وتقاسم المنافع وإن أدى ذلك الى غرق السفينة اللبنانية.
في الأول من أيلول\سبتمبر 1920 وقف الجنرال هنري غورو المندوب السامي الفرنسي على شرفة قصر الصنوبر في بيروت، ليعلن قيام “دولة لبنان الكبير”. وبعد قرن من الزمن، في السادس من آب/أغسطس 2020، وقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في المكان نفسه على باب قصر الصنوبر، بعد يومين من انفجار مرفأ بيروت، ليُعلن أنَّ “دولة لبنان الكبير” لم تُعد صالحة للحياة، داعياً إلى إقامة “دولة لبنان الحديث”، وكأنَّ الوصاية الدولية تُبعث من جديد، ولكن هذه المرة بطلب من بعض اللبنانيين الذين هتفوا على باب قصر الصنوبر باللغة الفرنسية أمام ماكرون، مُطالبين بعودة الانتداب الفرنسي على لبنان، بالتزامن مع توقيع عريضة إلكترونية تدعو إلى وضع لبنان تحت الحماية الفرنسية، في مشهد سياسي وشعبي قلّ نظيره.
إنَّ مطالبة بعض اللبنانيين بعودة الانتداب الفرنسي بعد انعدام الثقة بالطبقة الحاكمة وفقدان الأمل في التغيير، لن تحل مشكلة لبنان أو تخرجه من مأزقه، بل ستكون ضرباً من “العبودية الطوعية”، ونوعاً من “القابلية للاستعمار”، وهذا ما لا يرضاه الشعب اللبناني على نفسه بالطبع، مهما بلغ السخط والغضب من الطبقة السياسية الحاكمة والنظام السياسي الطائفي وأوضاعه الاقتصادية المُنهارة، التي أوصلت لبنان إلى كارثة انفجرت في بيروت، وانفجرت معها براميل الفساد والتقصير والإهمال المتوارثة من عهود الحكومات المتعاقبة منذ اتفاق الطائف 1990، والمصنوعة على عيون الوصاية الخارجية، منذ إقامتها “متصرفية جبل لبنان” وحتى إعلان “دولة لبنان الكبير”، وصولاً إلى إعلان ماكرون إنشاء “دولة لبنان الحديث”.
اليوم تتراكم الأسئلة اللبنانية، لكنها تكاد تلتقي عند سؤال الصيغة التي ستحكم لبنان في المرحلة المقبلة عقب الدخول الفرنسي من جديد على خط الأزمة اللبنانية. فلو أعطي كل مكون لبناني حق تقرير المصير والخيارات السياسية التي يرتضيها أساساً لحكم لبنان، أيضمن أن خياره الجديد يحمل إليه الأمن والحرية والسلام في بيئته الداخلية ومحيطه الخارجي؟.
لذلك وعوض أن نضيع في الخيارات القصوى، وهي قاتلة، حبذا لو نسلك درب الخيارات الواقعية. لقد صار واضحاً أن هناك نماذج دستورية مفتوحة وناجحة تبدأ بنظام مركزي يقوم على استحداث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية مقابل مجلس نواب منتخب على أساس وطني لا طائفي، مروراً بالصيغ الدستورية الأخرى التي تتعلق بالمناطقية وصولاً الى الفدرالية.
إن الحل الأفضل هو ذاك الذي يتفق عليه اللبنانيون من دون نفاق وخداع وغش. فلا نقبل اليوم ما نتحضر للإنقضاض عليه غدا. سبق أن حصل ذلك. إذا كان “المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين”، فما بالنا وقد لدغنا مئة مرة؟.
ما يحصل اليوم من حراك شعبي منذ 17 تشرين الأول تحت مسمى “الثورة” يثبت مرة جديدة أنّ اللبنانيين قادرون على تجاوز آثار مئة سنة من مشكلتي: الطائفية والهوية، فهم خالفوا كل الزعامات السياسية التقليدية و الطائفية وصرخوا بصوت واحد: “الشعب يريد تغيير النظام”، لكن “النظام” هنا ليس عبارة عن أشخاص بل هو حفلة المحاصصة السياسية التي تجري على أسسٍ طائفية ومذهبية ومناطقية.
فإلى متى ستظل تُمارَس الديمقراطية في لبنان من خلال التوريث السياسي القائم على الحصص الطائفية والمذهبية؟ ولماذا يحق لهذا الزعيم أو ذاك أن ينقل البندقية من كتفٍ إلى كتف، وأن يغير تحالفاته الإقليمية والدولية، لكن لا يجوز للبنانيين تغيير النظام السياسي الطائفي؟ متى تكون الحلول من الداخل وليس الإستقواء بالخارج كلّما دعت الضرورة؟ ألا يجعل هذا الأمر من لبنان كانتونات لا وطناً؟ ويحوّل الناس من شعبٍ إلى قطيع يُساس ثمّ يُذبَح عند الحاجة؟! أوَليس ذلك هو السبب الأول لكثرة التدخّلات الإقليمية والدولية في الساحة اللبنانية؟ فعطب الدّاخل هو الذي سهّل دائماً تدخّل الخارج، وبإصلاحه تتعطّل فاعلية التأثيرات السلبية الخارجية، وبذلك أيضاً ينتقل لبنان من حال الكانتونات الطائفية والمذهبية والمناطقية إلى لبنان الوطن والمواطنة.
ويبقى السؤال: هل المئة سنة كافية ليتعلّم منها اللبنانيين؟.