يبدو أن لبنان سيكون أحد البلدان المستهدفة بما يعرف بـ “صفقة القرن”، ذلك أن الصفقة لا تستهدف تصفية قضية فلسطين فقط، وإنما إعادة ترتيب البيئة الإقليمية المحيطة بفلسطين المحتلة بما يتوافق مع المصالح الأميركية – الإسرائيلية المشتركة.
ان أجندة إعادة ترتيب البيئة الإقليمية المحيطة بفلسطين إنما تهدف الى تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، وقطع الطريق على أي نهضة حضارية في المنطقة، وبما يعيد توجيه بوصلة الصراع من صراع عربي – إسرائيلي إلى صراع طائفي – مذهبي – عرقي، تقف فيه “إسرائيل” إلى جانب الدول الحليفة لأمريكا، مقابل الجمهورية الإسلامية في إيران وحلفائها في المنطقة.
وبالتالي يدخل لبنان دائرة الإستهداف، باعتباره أحد بلدان المقاومة المطلوب تطويع نظامه السياسي بما يتوافق مع السياسة الأميركية، أو على الأقل بما يضمن تحييده وإفقاده فعاليته في معارضة “الصفقة”، وكذلك حلّ قضية اللاجئين الفلسطينيين على أرضه، سواء بتسهيل هجرتهم أم بتوطينهم من خلال منحهم الجنسية اللبنانية.
بعد توليه سدة الرئاسة الأميركية أعلن الرئيس دونالد ترامب عزمه التوصل الى صفقة نهاية للصراع العربي الإسرائيلي زاعماً بأنه سيحقق ما فشل أسلافه عن تحقيقه مستنداً إلى قدرته كرجل أعمال على المناورة وعقد الصفقات، وهو ما طرح مؤشرات كانت تستوجب القلق والحذر الفلسطيني والعربي والدولي من هذه الخطة التي تتضمن بشكل واضح وآحادي الجانب المصالح الإسرائيلية، وتأخذ بالكاد مطالب الفلسطينيين بعين الاعتبار، حتى الدولة الفلسطينية الموعودة ستكون سيادتها محدودة، فالصفقة كانت مجرد تبنّ من الإدارة الأميركية لصالح “إسرائيل” بالكامل، وتجاهل لمطالب الفلسطينيين، وبالتالي لن تؤدي إلى إحلال السلام، بعد أن جعلت من القضية الفلسطينية مجرد قالب حلوى تحصل “إسرائيل” على القطعة الأكبر منه فيما لم يحصل الفلسطينيون الا على بعض الفتات.
إن صفقة القرن ليست صفقة، لأنّه لم يحصل تشاور مع الفلسطينيين حولها، بل هي خطة إسرائيلية تبناها ترامب لتصفية القضية الفلسطينية، وتتضمن إقامة دولة فلسطينية في صورة “أرخبيل” تربطه جسور وأنفاق، وعاصمتها “في أجزاء من القدس الشرقية”، مع جعل مدينة القدس المحتلة عاصمة مزعومة لـ “إسرائيل”، وحل قضية اللاجئين خارج حدود “إسرائيل”.
إن “صفقة القرن” هذه، كما يُنظر إليها من واشنطن، تنطلق من الفكرة القائلة بأن الزمن (26 عاما مرت على اتفاقية أوسلو للسلام) أثبت أنه لا يُمكن توقع التوصل إلى أي حل وسط في المدى المنظور بين الفلسطينيين والإسرائيليين. تبعاً لذلك، فقد حان الوقت لفرض حل أحادي الجانب.. حتى وإن انتُهكت مبادئ القانون الدولي.. وحتى وإن قُدّم تبرير لكل السّلطويين المقتنعين بأن القوة الأميركية تنتهي بفرض قانونها في نهاية المطاف. وهذا يعني بالتأكيد أن صفقة القرن لن تؤدي الى إحلال السلام في المنطقة، بل ربما تجلب توتراً جديداً وتقود الى إشعال انتفاضة الشعب الفلسطيني لا سيما وأن هذه الصفقة كان قد سبقها اعتراف واشنطن بالقدس كعاصمة “لإسرائيل”، وهو ما يجعل المرء يعتقد بأنّ ما قام به ترامب كان الهدف منه ليس تحقيق السلام وإنّما دعم حليفه نتنياهو الذي يُواجه في داخل بلاده هجوماً عنيفاً نتيجة فضائح فساد، ويصارع بكل قواه من أجل الظفر بفترة حكم جديدة، كما أن ترامب حرص “على مساندة الرئيس الذي يُمارس عليه هذا الضغط من خلال إطلاق تصريحات مؤيدة للكيان الغاصب، حيث أنّ اتفاق سلام من هذا القبيل يحقق أحلى أحلام اليمين الإسرائيلي المتطرف بالنظر الى الوضع الحرج الذي يمر به حاسماً هذه المرة.
واللافت في هذا الأمر أيضا هو ردود الأفعال على خطة ترامب الذي اعتبر أن “القادة العرب لا يخشون اليوم “إسرائيل” بل إيران، حيث تمثل فلسطين اليوم بالنسبة لهم حملاً زائداً، فمن خلال إجراء مقارنة، إن ما يثير القلق بين ردة فعل جامعة الدول العربية عام 1979 على تجرّؤ الرئيس المصري أنور السادات على عقد إتفاقية كامب ديفيد مع “إسرائيل” حيث علقت عضوية مصر وفرضت مقاطعة اقتصادية عليها، وبين ردود فعل الدول العربية المتواضعة اليوم على خطاب ترامب الذي يملي على الفلسطينيين خطة “إسرائيل” للسلام، يتبيّن لنا الفرق بشكل واضح بعد أن حضر سفراء البحرين وعُمان والإمارات العربية المتحدة شخصياً.
هذا الإعلان في العاصمة واشنطن، بل تحدث السفير الإماراتي لدى الولايات المتحدة عن “خطة جادة” و”نقطة انطلاق مهمة” للمفاوضات المستقبلية تحت الوساطة الأميركية، حسب تعبيره، كما اعتبر بيان لوزارة الخارجية السعودية “أنّ المرء يقدر جهود ترامب من أجل خطة سلام شاملة”. أما مصر فقد دعت الإسرائيليين والفلسطينيين إلى “دراسة الخطة بعناية”، في حين اكتفت جامعة الدول العربية بالدعوة إلى عقد اجتماع طارئ على المستوى الوزاري فقط.
لا شك بأن ردود الأفعال المتواضعة على صفقة القرن إنما تعود الى أوضاع البلدان العربية الضعيفة من الناحيتين العسكرية والاقتصادية وذلك بعد تفكك الإتحاد السوفياتي الذي كان يصدر الأسلحة لمصر وسوريا ما تسبب باندلاع الحروب السابقة مع “إسرائيل” في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وتراجع اعتماد الولايات المتحدة الأميركية على النفط،، وانتشار ظاهرة “الربيع العربي” التي أدّت الى الإطاحة بعدد من الرؤساء العرب عن سدة الحكم والتي تزامن مع ظهور “الجماعات التكفيرية المسلحة” أو ما بات يعرف “بالإرهاب التكفيري”، بالإضافة إلى حصول “الثورة الإسلامية في إيران”، حيث “لا تبحث عدد من البلدان العربية اليوم عن مواجهة مع “إسرائيل” بل تقود حرباً بالوكالة على الميليشيات الحوثية المدعومة من إيران”، بالإضافة إلى اعتمادهما في ذلك على الدعم الأميركي والبريطاني.
لقد باتت صفقة القرن حديث الموسم إقليمياً وعالمياً، إذ أنّ هذه الصفقة ليست نزاعاً إسرائيلياً – فلسطينياً وحسب، بل تغيير جدّي في خريطة وكيانات الشرق الأوسط، وقد تطال هذه التأثيرات لبنان الذي يعتبر في واجهة الصراع مع “إسرائيل”، ومع قيام الإدارة الأميركية بإنشاء صندوق استثمار عالمي لدعم اقتصادات الفلسطينيين والدول العربية المجاورة ولبنان هو من بين هذه الدول والذي يستضيف على ما يزيد على الـ 400 ألف لاجئ فلسطيني حيث يعيش 174 ألفاً و422 لاجئاً فلسطينياً في 12 مخيماً و156 تجمعًا في محافظات لبنان الخمسة، – حسب إدارة الإحصاء المركزي اللبنانية – والذي يرفض لبنان توطينهم وهو الذي استضافهم نحو 70عاماً.
لكن المفارقة أن تأثيرات صفقة القرن وتداعياتها على لبنان ستكون خطيرة على مستوى التغيير الجغرافي وترسيم الحدود مع “إسرائيل” في ظل الضغط الأميركي على لبنان بالقبول بخطّ “هوف” الذي يقتطع ثلث المنطقة الإقليميّة اللبنانيّة الغنيّة بالنفط والغاز لمصلحة “إسرائيل”، كما سيواجه لبنان تغييراً ديموغرافياً ملحوظاً وبتعديل في التوازن الطائفي الذي يقوم عليه النظام اللبناني نتيجة توطين نصف مليون لاجئ فلسطيني مقيمٍ في لبنان حالياً، مع العلم بأنه في حال موافقة لبنان على صفقة القرن – وهذا أمر مستبعد – فأول هذه التّأثيرات سيكون جغرافياً، حيث سيتم زيادة مساحات الأراضي اللبنانية وذلك بـ “ضم أجزاء من سوريا”، بحسب خريطة المشروع. أما اقتصادياً، فسوف تتزايد الاستثمارات العربيّة والأجنبيّة على أراضيه، بحسب ما زعم به ترامب عن مشاريع استثمارية في الدّول العربيّة المشاركة بخمسين مليار دولار أميركي، ما من شأنه أن يعزّز وضع البلاد في كافة المجالات الحيويّة، إضافةً إلى تفعيل المرافئ البحريّة بناءً على ترسيم الحدود البحريّة، فالصفقة تستخدم المدخل الاقتصادي والمالي كمدخل للدفع باتجاهها؛ حيث إن المعاناة الهائلة التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني، وتصاعد الدَّين القومي، والعجز الضخم في الميزانية، والإشكالات المعيشية المزمنة في الكهرباء وغيرها، كلها يمكن أن تجد حلاً بدعم أميركي غربي خليجي؛ إذا ما أعطت الأطراف اللبنانية الفاعلة أو معظمها ضوءاً أخضر باتجاه متطلبات الصفقة، وهو ما ينطبق على إمكانية حل إشكالية التنقيب عن الغاز في الساحل اللبناني واستثماره وتصديره، دون اعتراضات أو عراقيل إسرائيلية.
في انتظار مرحلة التّصعيد القادمة، يمكن القول بأن صفقة القرن لا تعني أن “إسرائيل” وصلت برّ الأمان، فحتى الآن لم يكن السلام ممكناً إلّا مع دولتين عربيتين، مصر والأردن، فليست المشاعر العربية تجاه “إسرائيل” هي التي تغيّرت، بل الظروف التاريخية والتبعيات والأولويات الوطنية، وهذه يمكن أن تتغير مرة أخرى مستقبلاً بنفس السرعة التي تمت بها في الماضي، فيما يبقى أن الأمر متوقف الآن على وحدة الصف الفلسطيني كما سيتعيّن على الدول العربية أيضًا إظهار موقفها بمواصلة التمسك بالقضية الفلسطينية والمقدسات، مع التعويل على دور لدول الإتحاد الأوروبي وروسيا والصين للحد من الغطرسة الأميركية وعدم جعل الفلسطينيين يشعرون بالعزلة.
هل سيجد العرب أنفسهم مجدّدًا أمام القرارات والآراء المتضاربة، لتدخل المنطقة العربية مرحلتها الجديدة بين الرّفض والقبول؟ لا يسعنا سوى الإنتظار. ولا نبالغ إذا قلنا إنّ لبنان والشرق الأوسط كلّه “في عين العاصفة”.