تستمر حركة الإتصالات والمشاورات ويتوقع أن تتظهّر الترتيبات المحتملة بين الأطراف المعنيين يوم الإثنين القادم موعد الأستشارات النيابية الملزمة حول العثور من قبل الطبقة السياسية القابضة على الحكم على رئيس للحكومة لتكلفه تشكيل ما يشكلونه وتأليف ما يؤلفونه.
حرّك رئيس الجمهورية المياه الراكدة ببيان الدعوة الى استشارات التكليف، لكن هذه الخطوة المنتظرة لم تولّد إرتياحاً في الشارع، بل على العكس من ذلك فقد استمر قطع الطرقات والتصعيد الكلامي وعمليات الإنتحار في صفوف الشباب الرافضين للواقع الحالي، بينما رؤساء الحكومات السابقون شنوا حملة التصعيد والإتهامات ضد رئاسة الجمهورية التي إتّهموها بمخالفة الأعراف الدستورية.
وفي الوقت الذي تتواصل حالة الإنهيار الاقتصادي والمالي التي من المفترض أن تنعكس تداعياتها على ضرورة تشكيل حكومة خبراء مختارين يناسبون معايير الأزمة المستشرية، ولكن يبدو في أقل تقدير أن القيمين على أوضاع اللبنانيين يريدون حكومة مشابهة لتلك المستقيلة مع تعديلات تستنسبها، وهي ما كشفته خريطة طموحات البعض في السيطرة على بعض الوزارات حفاظاً على امتيازاتهم وزيادة نفوذهم السلطوي.
جورج زريق لم يحرق نفسه، وناجي الفليطي لم يشنق نفسه، وداني أبو حيدر لم ينتحر، كل هذه الأخبار كاذبة، كيف لا وقد أصبح الشغل الشاغل لدى السلطة هو التفتيش عن شخصية يسمّونه رئيس للحكومة على أن يكون شرطه الوحيد القبول بصفته الجديدة وليس بالضرورة أن يحمل إليهم مشروع أو رؤية تخرج البلاد من الأزمة الاقتصادية والنقدية والمعيشية الخانقة، فالأولوية كانت ولا تزال الإبقاء على هذا النهج التقليدي في إدارة الحكم، أو إدارة الفوضى المستشرية في كل الإدارات والقطاعات الرسمية التي قادت الى ما نحن عليه اليوم.
تتناسى الطبقة الحاكمة الأزمة المالية التي تعصف باللبنانيين والتي تتّجه سريعاً الى حد إنهيار البلد، وهي لا تريد أن تسمع مطالب “الثورة” الشعبية التي إنطلقت منذ 17 تشرين الأول ضد الفساد والتي تطالب اليوم بحكومة جديدة تعمل على الحد قدر الإمكان من وجع الإنهيار. ولكن فات هؤلاء المشهود لهم بفسادهم أنهم وقعوا في فخ أخطائهم المتكررة والمتمادية بحق المواطن والإعتداء على كرامته الإنسانية.
فعلى الرغم من كل الإنتقادات التي وُجّهت من قبل البعض الى إنتفاضة اللبنانيين على مختلف الأراضي اللبنانية في سبيل حياة حرة وكريمة، ولكن يسجّل لهذه الإنتفاضة تمكنها في إسقاط الأقنعة عن الوجوه والأدوار، فهي بعفويتها ونبض شبابها وشيبها استطاعت أن تعيد للوطنية معناها الحقيقي على حساب الخطاب الفتنوي: فالوطنية تعني محاربة الفساد ومحاسبة المرتكبين، وهي نقيض الطائفية بكل أشكالها التحريضية والتقسيمية، وهي نقيض تمجيد الزعيم وتقديسه والتطوع لخدمته، وهي نقيض السكوت عن المخالفات والإرتكابات مقابل المناصب والخدمات والإمتيازات، وهي نقيض التسويات وصفقات المحاصصة.
إن الإستمرار في إنكار هذا الواقع المأساوي الذي يلتف على رقاب اللبنانيين كل اللبنانيين فيه الكثير من المكابرة، وبات على الجميع الإعتراف بأن حياة اللبنانيين التي كانت قبل 17 تشرين انتهت ودخلنا حياة جديدة، مما يستدعي السير في خيار حكومة إنقاذ وسط السباق المحموم بين الإنهيار المالي والاقتصادي والتأزم السياسي ومحاولات فرض الشروط الأجنبية على وطن باتت فيه الحياة الكريمة شبه مستحيلة.