بدا لبنان منذ بداية هذا الأسبوع عالقاً بين فكي نارين تستعر حيناً وتُخمد حيناً آخر: النار الأولى تمثلت بنار الأزمة السياسية التي أشعلها الصراع القائم على الرؤية الإقتصادية المستعجلة للنهوض بلبنان، والأزمة المالية التي باتت تهدد عيش اللبنانيين جميعاً وعلى كافة الصعد الحياتية الاقتصادية منها والاجتماعية والصحية، كما على الاستراتيجية الدفاعية والسياسة الخارجية، ففي كل يوم حريق سياسي وآخره الحريق الذي إندلع مع المطالبة بضرورة عودة الحوار مع سوريا بعد تسارع التطورات الحاصلة في المنطقة، والذي لاقى اعتراضاً مباشراً من وزراء الحزب التقدمي الإشتراكي و”القوات اللبنانية”، بعد أن سقطت رهاناتهم في إسقاط الرئيس بشار الأسد بحيث بات بقاء الأخير على رأس السلطة في سوريا يقلقهم، هذا وأتى خطاب وزير الخارجية جبران باسيل في الإجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب الذي إنعقد في القاهرة للبحث في العدوان التركي على سوريا، ودعوته أن تعود سوريا الى الحضن العربي، ليستعر لهيب النار السياسية ويثير غضب رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط، ورئيس حزب ”القوات اللبنانية” سمير جعجع ضده، مع حملة عليه من قبل خصوم سوريا، حيث حرّك الحزب التقدمي الإشتراكي طلابه ومناصريه، في تظاهرة لحماية الحريات، وهي للهجوم على عهد الرئيس ميشال عون، الذي يحميه “حزب الله” من الإنهيار أمام الأزمات المتتالية، على خلفية مواقف باسيل من سوريا، التي أعلن أنه سيزورها ليبحث مع قيادتها موضوع النزوح السوري الى لبنان، بعد أن حصل تلكؤ فيه، وهو ما سبق للرئيس عون أن طرحه في الأمم المتحدة، وأكّد في كلمته أنه قد يزور سوريا للتباحث مع رئيسها بشأن النازحين السوريين الذين يشكّلون عبئاً ديمغرافياً ومالياً واقتصادياً وأمنياً على لبنان، وهو ما تشكو منه كل الدول في الجوار أو البعيدة في أوروبا وغيرها، ما نسف مصالحة عون – جنبلاط التي توجتها مصالحة إرسلان – جنبلاط في المقر الرئاسي الصيفي في بيت الدين بعد حادثة قبرشمون ولقاء اللقلوق بين باسيل والنائب تيمور جنبلاط، وأعاد التوتر بين الطرفين، خاصة بعد الموقف الصامت من قبل رئيس الحكومة سعد الحريري الذي لا يترك فرصة إلا ويؤكّد على بقاء التسوية الرئاسية.
وأما النار الثانية فهو غضب الطبيعة، التي كبّت جمّ غضبها دفعة واحدة، فنفثت نارها فوق نار الأزمات، مشعلة لبنان المنهك من أقصاه الى أقصاه، مكررة المأساة نفسها في كل عام، وكأن شيئاً لم يكن.
أن تلتهم النيران جبال لبنان وما تبقى من مساحات خضراء ليس حادثاً عابراً تدمع له العيون فحسب، إنما هو واقع مخزٍ يُعرّي منظومة حكم ليس فيها مَن يُحاسِب ولا مَن يحاسَب. إندلاع حرائق تشرين، قد يكون بفعل القضاء والقدر وقد لا يكون. ولكن في الحالتين تكرار هذا المشهد المدمي وبشكل شبه منتظم في الوقت نفسه من كل عام لا يحمل سوى عنوان واحد: الإهمال والفشل! وكأن البلد المحترق بلهيب الأزمة السياسية التي تفوق الطبيعة كان ينقصه احتراق ما تبقى من طبيعته الخضراء، حيث شهد اللبنانيون محافظات وجبال وأودية تحترق من الشمال الى الجنوب مروراً بالجبل الذي كانت له الحصة الكبيرة من الحرائق والخسائر، حيث أكلت النيران شجراً بعمر السنين وحاصرت بيوتاً وسكاناً آمنين، وقطعت الكهرباء المقطوعة أصلاً، فوترت البلد المتوتر أصلاً وأربكت الحكومة المربكة، فبدأ عدد من المسؤولين بتراشق التهم بعضهم لبعض بالتقصير، في محاولة غير ناجحة لنفض اليد من تحمل المسؤولية، ما كشف الفساد المستشري في الدولة والهدر والإهمال الذي طال موضوع صيانة طائرات “سيكورسكي” التي اشترتها الدولة من التبرعات، والتي كانت ستحد من كوارث الحرائق، التي قضت على المساحات الخضراء لو لم تترك بلا صيانة في المطار، ما دفع رئيس الجمهورية العماد إميل لحود الى المطالبة بفتح تحقيق بأسباب توقف تلك الطائرات عن العمل منذ أعوام وتحديد المسؤولية، كما طلب إجراء كشف سريع عليها، والإسراع بتأمين قطع الغيار اللازمة لها، وأوعز الى إلى المعنيين بوجوب تقديم مساعدات عاجلة إلى المواطنين الذين اضطروا إلى مغادرة منازلهم المحاصرة بالنار، وتقديم الإسعافات اللازمة، ومعالجة المصابين من السكان أو ممن يكافحون النار، واطلع على تقارير الحرائق في عدد من المناطق، وأوعز بوضع كل الإمكانات بتصرف الفرق التي تتولى عمليات الإطفاء، منوهاً بالجهود المبذولة لمكافحة الحرائق التي يبذلها رجال الدفاع المدني والجيش والإطفاء، الذين استعانوا بعد أن وجد لبنان نفسه عاجزاً عن السيطرة على جميع الحرائق التي إندلعت، وهي الأكبر منذ أكثر من 10 سنوات والتي إمتدت الى 103 مواقع، وأسفرت عن مقتل شخص، وجرح وتشريد العشرات من منازلهم، إضافة الى خسائر مادية طالت السيارات والمنازل، وسط تضارب في الأسباب التي تتصدرها موجة الحر والرياح الموسمية، استعان لبنان بدول صديقة بينها دول أوروبية والأردن لمساعدته فاستقدم طائرتين متخصصتين بإطفاء الحرائق من قبرص قبل أن تتدخل العناية الإلهية بغضب البرق والرعد وسقوط المطر الذي أطفأ النيران مطفئاً القلق في قلوب اللبنانيين الذين هبوا من كل حدب وصوب، بعد أن أشعلت النيران الروح اللبنانية الحقيقية العابرة للخنادق السياسية والمذهبية والمناطقية، لإطفاء الحرائق ومساعدة الدفاع المدني وإيواء المشردين من الحريق والمساعدة قدر المستطاع.
ما حدث هو جريمة بكل المقاييس، وتقصير كامل الأوصاف، وفضيحة مكتملة العناصر، لكن أين مرتكب الجريمة، أين المقصر؟ وعلى من تقع المسؤولية؟
ألم يحن الوقت لتكون هناك غرف عمليات خاصة بإدارة الأزمات في كل محافظة، ترفدها منصات مراقبة وإدارة متنقلة ومتحركة، على غرار ما هو موجود في دول العالم المتقدم، ولتديرها طواقم متخصصة ومؤهلة، وليخصص لها اعتمادات مالية كافية، تمكنها من القيام بعملها على أتم وجه، خصوصاً وأن عشرات الإعتمادات لا بل مئات تصرف يمنة ويسرة وعلى أمور تحارب المواطن في لقمة عيشه.
في أي حال وفي شكل عام إذا كانت موارد المياه ومواد الإطفاء غير كافية لإطفاء كل النيران فربما تفي بالغرض دموع اللبنانيين التي ذرفوها وهم يشاهدون بقلوبهم قبل عيونهم آخر وردة تحترق وآخر شجرة تهوي في فم اللهب العملاق الذي طال بألسنته أجمل غابات جبل لبنان وجنائنه خصوصاً في الشوف والمتن المحاذي لكسروان وفي وطى الجوز…امتداداً الى الضنية وعكار…