في ذكرى حرب تشرين التحريرية، لا بدّ من إطلالة معمقة على التاريخ لفهم اللحظة الراهنة، وقراءة المشهد الماثل بصورة موضوعية وبعيداً عن السردية، وعلى ضوء التحديات التي لا تنقطع والصراع المستمر.
كان العرب يداً واحدة تجمعهم قضية فلسطين وهي قضية الأمة، وكانوا محل استهداف الأعداء الصهاينة وقوى الهيمنة الإستعمارية بأشكالها القديمة والحديثة.
تفرّق العرب عندما تخلى البعض منهم عن الشعور بالمسؤولية تجاه شعبهم وقضايا أمتهم، بدأت الأمور تأخذ منحى المساومة والرهانات الخاطئة، وذلك بعيداً عن المسار الطبيعي لشعبنا العربي وتاريخه وقيمه وتقاليده، وانقلب سلّم الأولويات لديهم، عندما ضربوا عرض الحائط بكل نضالات أبناء أمتنا، وخطّ هذا البعض معاهدات الإستسلام والتطبيع مع العدو الصهيوني، لكن مسار الأحداث في المحصلة أخذ إتجاهاً آخر بفعل تضحيات أبناء الأمة من المقاومين الذين نذروا أنفسهم للحفاظ على كرامة الأمة، واختاروا المواجهة واستمرار الصراع وهو الوسيلة الكفيلة لاستعادة الحقوق وتحرير الأرض العربية المغتصبة، وهزيمة مشاريع الأعداء وفي المقدمة الكيان الصهيوني، الثكنة والقاعدة الاستعمارية الكبرى في المنطقة وهي ربيبة القوى الاستعمارية.
نستلهم من ذكرى حرب تشرين 1973، هذه الحرب ما قبلها وما بعدها، وفيها ما يغني معارفنا ويوسع أدراكنا، ويزيدنا قوة وعزماً، ويخلق جدلية قوة الحق وإرادة التحرير، وهنا نذكر مرحلة الأعداد والجهود العظيمة للقائد الخالد الرئيس حافظ الأسد، وهو الذي كرّس حياته لبناء سورية الوطن وتأمين مستلزمات الصمود والتصدي في مواجهة العدو الصهيوني، فكان منارة للأجيال، وتاريخاً في رجل، وحاضراً على الصعيد العربي والدولي، وساهم في تحقيق التضامن العربي، وحرص على الاستفادة من كل الإيجابيات وصهرها خدمة لمعركة التحرير والبناء.
لذلك كانت حرب تشرين المجيدة 1973، الحرب العربية في مواجهة الكيان الصهيوني، وهي الحرب الرابعة في سلسلة المعارك والمواجهة، وأول حرب يحدّد العرب زمانها ومكانها، والحفاظ على المبادرة خلال عدد من مراحلها، وما يميّز تلك الحرب عن الحروب التي سبقتها، في أن العرب استخدموا خلالها ولأول مرة في تاريخهم الحديث، معظم أسلحتهم العسكرية والاقتصادية والسياسية كما استخدموا الضرب بالعمق والبعد الاستراتيجي، والمفاجأة الكاملة، ومجابهة الدبابات بالمشاة، وتحييد الطائرات بالصواريخ، والإنزال خلف خطوط العدو.
والسؤال هنا: ما هي أبعاد حرب تشرين على صعيد الميدان؟
بالتأكيد هي تحتوي الدروس والعبر، والربط بين حاضرنا وتاريخنا، تعطي الأجيال الأمل والبسمة في غد مشرق، وهي الرد الطبيعي على نكسة حزيران 1967 “حيث كانت المنطقة تعيش حالة من عدم الإستقرار، وتلك الحرب ولدت جرحاً عميقاً عندما تمكن العدو الصهيوني وبدعم الدول الإستعمارية، من احتلال الضفة الغربية وغزة وهضبة الجولان وسيناء”.
بدأت المعارك في يوم السادس من تشرين الأول 1973، وفي نفس التوقيت تقدم الجيشان العربيان في مصر وسورية، في هجوم قوي، وبكافة صنوف الأسلحة على جبهة الجولان السورية وقناة السويس وسيناء، إعتقد العدو بأن الأمر مجرد مناورة (تضليل)، وتحقق عنصر المفاجأة، كان العدو الصهيوني واثقاً في تفوقه، ولم يكن بمقدوره أن يتصوّر أن العرب يملكون إرادة استئناف القتال.
تمكّن الجيش المصري من تحطيم خط “بارليف” واستطاعت القوات السورية الإنزال على المرتفعات والإندفاع بكثافة عبر هضبة الجولان، وتدمير خط “ألون” التي حاول الكيان تحصينه بأحدث الأسلحة، ووصلت قوات الجيش العربي السوري (ليل 7 – 8 أكتوبر) الى مدن وادي الأردن وبحيرة طبريا، وبلغت خسائر العدو الإسرائيلي، ربع ما يمتلكه من عتاد، وأجبر العدو على طلب المساعدة الأميركية العاجلة، وتمّ نقل الأسلحة والمعدات عبر جسر جوي، الأمر الذي عزّز الوضع لديه نوعاً ما، ولكنه لم يكن العامل الحاسم في قلب ميزان القوى، (فقد تكفّل سوء إدارة المعركة بإعلان الرئيس المصري أنور السادات بوقف تقدم الجيش المصري والإستعداد لوقف الحرب على أساس الإنسحاب من الأراضي المحتلة، ودعا الى عقد مؤتمر للسلام…)، وهذا الإعلان جاء بمثابة مفاجأة للقيادة السورية، وقد وفّر هذا القرار الفرصة للعدو الإسرائيلي لنقل جنوده ومعداته من سيناء الى الجولان السوري لمواجهة الجيش العربي السوري، وفي نفس الوقت قام العدو بإحداث ثغرة في الدفاعات المصرية غرب القناة – منطقة الدفرسوار)، وفي 22 تشرين الأول 1973 صدر قرار مجلس الأمن رقم 338 ودعا لوقف إطلاق النار وقبلته مصر فوراً، واضطرت سورية للقبول ولكن مع الإستمرار في حرب الإستنزاف، وهكذا كانت ثغرة “الدفرسوار” وحصار الجيش المصري الذريعة التي استغلها وزير الخارجية الأميركية هنري كسينجر ليقود الدول المتحاربة الى طاولة المفاوضات.
وفي الحقيقة كانت مصر وسورية متفقتين على استئناف المعارك إلا أنها كانتا مختلفتين في أعماقهما، حول مغزى الحرب الجديدة، وأثبتت الأحداث بأن المسألة كانت سياسية أولاً بالنسبة للسادات والهدف تحريك عملية السلام، إذ أن مجرد الشروع في مواجهة جديدة، سوف يرغم الأميركيون على التخلي عن سياسة الطريق المسدود، ومن ثم استئناف المبادرات، بينما كان الرئيس حافظ الأسد يقول بضرورة أن يستعيد العرب أكبر قدر ممكن من الأراضي العربية المحتلة، بما في ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة وعودة اللاجئين.
إن أهم ما يميّز حرب تشرين المجيدة 1973 في نتائجها، أثبتت أن الإنتصار ممكن لو توفرت القيادة والتخطيط، وأن مقولة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر أصبحت مقولة فارغة، وقدم الموقف العربي الموحد درساً بالغ الأهمية في قوة العرب الكامنة، فلم تكتفِ الدول العربية بالمشاركة في القتال، بل قامت الدول النفطية بتخفيض إنتاجها النفطي، وحظرت بيعه للدول المؤيدة للعدو الإسرائيلي (أميركا وبريطانيا)، الأمر الذي أحدث هزة اقتصادية كبرى في العالم.
أثبتت الحرب أن التحالف الأميركي – الإسرائيلي حقيقة واقعة وأن الرؤية السياسية الناضجة يجب أن تأخذ هذا الأمر بالإعتبار.
والأهم ما هي إنعكاسات نتائج الحرب على معنويات العدو الإسرائيلي؟
وعن ردود الفعل، كما اعتبرها شارون: “بأنها أقسى حرب واجهتها الدولة العبرية منذ تأسيسها”، واعتبرها مناحيم بيغن: “بأن الحرب بمثابة كارثة قوية لـ “إسرائيل”، أما صحيفة الغارديان البريطانية أوردت في 14 تشرين الأول 1973 ما يلي: ” وبعد أسبوع من الحرب، إن الأسطورة التي دامت ربع قرن اختفت، و”إسرائيل” معتبرة الآن ونهائياً، كشيء لم يعد منيعاً ويمكن الإنتصار عليه”، ونشرت صحيفة “نيوز ويك” الأميركية في 15 تشرين الأول 1973 ما يلي: “إن كل يوم يمر يحطم الأساطير التي بنيت منذ إنتصار “إسرائيل” السابق في عام 1967، فالمقاتلون العرب اجتاحوا في أحد الأيام جزءًا كبيراً من أوروبا”.
وكذلك فعلت صحيفة “الديلي ميل” في 11 تشرين الأول 1973: “لقد حطمت الحرب الرابعة “الوضع الراهن” العزيز على الإسرائيليين وتلقى المجتمع الإسرائيلي صدمة عنيفة، وأصيبت معنوياته بهزة زلزالية، وكان الأسبوع الأول بالنسبة لهذا المجتمع أسلوب تأديب”.
أما رئيس المؤتمر اليهودي العالمي “حاييم كولدمان” في صحيفة هآرتس في 11 تشرين الأول 1974 وبعد أشهر من الحرب قال: “أن التشاؤم والكآبة والقلق الذي يسود الإسرائيليين ويهود العالم على السواء جاءت نتيجة تحطم نماذج ومفاهيم كثيرة، وكان هناك مبالغة في تقدير قوة “إسرائيل”.
أثبتت الحرب هشاشة الكيان الصهيوني الذي يعيش على الدعم الأميركي والغربي، وأنه مجرد أداة بيد القوى الإستعمارية الكبرى، فانهارت أسطورة الردع التي طالما تباهى بها، وتعرض دور الكيان الصهيوني الى الإهتزاز، ويعترف الصهاينة بمفاجأة العرب لهم في الحرب، فيقول رفل بنكلر – عل همشمار في 9 تشرين الأول 1973: “لقد فاجأونا! لقد أمسكوا بنا ونحن في سراويلنا الداخلية! لقد أمسكونا ونحن في قمة سعادتنا وثقتنا، عندما كنا نثق بقوتنا أكثر مما ينبغي، وعندما كنا نعتقد أننا نستطيع ضرب أي عدو في ستة أيام”.
وحرب تشرين أيضاً، هزت ثقة الإسرائيليين بجيشهم وحكومتهم، وثبت أن الوضع الأمني لم يكن سليماً كما يدعون، كما أن الجيش الإسرائيلي لم يبرهن على قوته الأسطورية التي حدثه المسؤولون عنها صباحاً ومساء، ولم تستطع الخطوط الدفاعية “المنيعة” حماية القوات الإسرائيلية المتمركزة عليها أو أسرها.
ولدى الجماهير العربية ترسّخت القناعة التامة بحتمية النصر على الأعداء، فسلاح الإرادة والوعي من مقومات النصر، وعندما يتم تأمين المستلزمات، فالجندي العربي أثبتت قدرته ومستوى الأداء الرائع في استخدام السلاح الحديث، والتنسيق بين مختلف صنوف الأسلحة، هذا ما أعاد للمقاتل العربي مكانته، والثأر من هزيمة 1967، وكان لمتانة الجبهة الداخلية حول قيادة الرئيس حافظ الأسد ومدى الإنضباط، والثقة بالنفس والتعاون من خلال لجان الأحياء في المدن والقرى، وتأمين الخدمات والمواد والمخابز التي كانت تعمل بكامل طاقتها، من علائم النصر، ووعي الذات عامل مهم في بناء الإنسان، وهي كانت بمثابة تمهيد لاستراتيجية جديدة لخوض الصراع مع العدو، بغية تحرير الأرض واستعادة الحقوق، واعتماد التوازن الإستراتيجي، وضرورة إعداد الإنسان الواعي القادر والتوازن في كافة نواحي الحياة، ثقافياً واقتصادياً وسياسياً.
وبعد الإنتصار العربي في حرب تشرين 1973، عملت الاستراتيجية الأميركية – الصهيونية على تفكيك العالم العربي والتعامل مع كل دولة على حدة بهدف إنتزاع عوامل القوة، واللعب على أوتار المصالح الفئوية، فكانت كامب ديفيد لإخراج مصر من دائرة الصراع، واخترعوا أوسلو لإجهاض الإنتفاضة في فلسطين، في لعبة خداع وتضليل ومحاولة تسويق عملية السلام المزعومة، وكان هدف العدو ومَن يقف خلفه، الإستفادة من عامل الوقت لمصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية وتهويد المدن الفلسطينية وفرض وقائع جديدة على الأرض، وفرض التطبيع على بعض الدول العربية، والضغط عليها لتغيير إتجاه البوصلة بعيداً عن فلسطين، وخلق عدو وهمي لإشغال العرب وإضعافهم ونهب ثرواتهم.
في ذكرى حرب تشرين المجيدة 1973، كثيرة هي الدروس والعبر، علينا أن نعي اللحظة الراهنة بكل أبعادها، وأن نستلهم العزيمة والإرادة من أمجاد حرب تشرين، كي نكون الأوفياء لدماء الشهداء والأمناء على مستقبل الأجيال، والتمتع برؤية صائبة لحقيقة الأوضاع في عالمنا العربي وما يواجه من تحديات، وأن نميّز بين الأعداء الذين يتربصون بأمتنا ويعملون على إضعافها لنهب مواردها وجعلها رهينة التخلف والتبعية، وبين مَن يقف الى جانب حقنا وقضايا أمتنا في مواجهة الأعداء، عندها فقط نمتلك جدارة وإرادة الحياة، وتحقيق النصر، ولنا في ذكرى حرب تشرين التحريرية نبراس لأجيالنا ودرس لحاضرنا، وصهر لقدراتنا وإمكانيات أمتنا، ولنعي تماماً بأن الحق يؤخذ ولا يعطى، هذا ما يعلمه التاريخ لنا، إنه أقصر الطرق للوصول الى أهدافنا وانتزاع حقوقنا.